الفصل الخاص: الجانب ب لم يعرفوا بعد مكانًا ينبغي أن يعودوا إليه.
انتهت اختبارات الفصل، وانقضى موسم المطر. ومع أنّه ولّى، فإنّ زخّاتٍ غزيرةً ما تزال تُفاجئني في طريق عودتي إلى المنزل، وكأنّ رطوبةً لزجةً تملأ الأجواء وتلتصق بالجلد. وبحكم أنّ ثانويّة «سوبو» على الساحل، فهي تتشرّب رطوبة البحر: الريح المالحة تُبهِت الدراجات والطلاء ثم تُصدِّئ الحديد المعرّى من الأسوار. ومع رطوبة الجو، كان مزاجي على غير العادة صافيًا. فهذا الوقت من العام، قبيل عطلة الصّيف، يُفرِح ليس «الطبيعيين» أصحاب الخطط الزاخرة فحسب، بل والمنعزلين الذين سيتحرّرون من سجن المدرسة. لعلّه سحر الصيف؛ فالحرّ كثيرًا ما يفقد النّاس صوابهم.
ولهذا كنت أتصرّف بغرابة وأُخالِف حُكم عقلي. الأمر غير مألوف حتّى لي. الممرّ وراء المبنى القديم والمبنى الجديد مظلَّل، لذا يظلّ لطيف البرودة. من أعلى، يبدو المبنى القديم مربعًا، والجديد خطًا ملصوقًا بأحد أضلاعه. مكان خفيّ لا يمرّ به الطلّاب إلا نادرًا، فلا أحد هنا في استراحة الغداء… سواي وسوا شخصٍ آخر. والطلّاب يهتفون فرحًا بالغداء والاقتراب من العطلة، والنسيم يحمل إلينا رائحة البحر الخفيفة. وفي هذا الركن السرّي خلف المدرسة، كنّا وحدنا نحن الاثنين. قد يوحي هذا بتجربة صيفية يافعة. لكن الحقيقة ليست كذلك.
«هاهاها! جئتَ إذن يا عدوّي الأزلي… هاتشيمان!» صاح رفيقي «زاياموكوزا» بتهويلٍ ساذجٍ مزعج. رَدَدْتُ بلا مبالاة: «وأخيرًا حاصرتُك يا سيّد السيوف العامّ». كان صوتي رتيبًا يَشِينُه البرود حتى ليبدو أيّ مُعلّقٍ تلفزيونيّ ممثِّلًا صوتيًا أبرع. أمامي اتخذ زاياموكوزا وضعيةً مسرحيّةً متباهية، درجة «بارف سبارك» من الإزعاج.
الحقيقة؟ نحن فقط هربنا إلى هذا الركن المنعزل كيلا ترانا أعين الناس. تلك الرائحة المالحة؟ على الأرجح عَرَق. أليست حِيَل الوصف مخيفة؟ كنت آكل بمفردي فوق السور، أراقب «توتسوكا» يتدرّب ظهرًا، حين داهمني زاياموكوزا وأجبرني على قراءة مخطّط روايته، ثم جرَّني إلى مسرحيّته «متلازمة الصفِّ الثاني» في هذا الحرّ. هكذا هو صيف سنتي الثانية بالثانويّة: صيف اليابان لا يشبه «صيف كِينتشو».
«هُمم… ما هذا الفتور يا هاتشيمان؟ لِم لا تتخذ وضعيّة القتال! لن يتجلّى لي الإلهام!» راح يصرخ ويرفس الأرض. كنت قد قلت إنّ مخطّطه غير واضح، فراح يُمثّل، وإذ بنا هنا. ولا سبيل إلى «إقناعه»؛ يجب مجاراته بالخيال لا المنطق. فتبسّمت باحتقار: «آه… هذه الوضعيّة؟ تُسمّى وضعية اللا-حركة؛ تُرخي الجسد كُلّه فلا ينال منك هجوم». «واااو! فكرةٌ عبقرية!» ابتلع الطُّعم فورًا. دوَّن الفكرة في هاتفه بسرعة. كنت محتارًا بين هذا الكلام وبين «وضعية تنشي-ماتو»، فإن راقَ له فليأخذه. «تفلِّت وتتجنّب ثم تسدّد لكمة وعظٍ… سيُثْني الجميع عليها!» تَمتم بتأثّر. تركتُه وأسنَدْتُ ظهري للحائط؛ يبدو أنّ مشكلته حُلَّت فصرتُ حرًّا. وكنت قد تعرّقتُ من هذا العبث؛ فداوى النسيم خدَّيَّ المتوقّدَيْن. التفتُّ قليلًا لأدع الهواء يرجع شعري كـ«T.M.Revolution»، فإذا بعددٍ من فتيان الجودو يسيرون ضارعين بكتفين واهنيْن. «مساكين» لا «مخيفون» رغم بزّتهم القتاليّة. ظننتهم مُتفانين كـ«ملاكي توتسوكا» ما داموا يتدرّبون ظهيرةً، لكن يبدو أنّ نادي الجودو عندنا ليس كذلك. آه ملاكي توتسوكا… أودّ أن أُجيبَ الاختبارات لأراه يكبر! كان توتسوكا يتدرّب بمرحٍ ولطف، أما أولئك فمُختلفون: لا هم مميّزون ولا ظُرفاء. وجوههم خاوية يمشون كزومبي متعب… أنتم موظّفون أم ماذا؟ فجلستُ أرضًا أُريح ظهري إلى الحائط.
رأى زاياموكوزا نظراتي فمال برأسه: «مجموعةٌ مريبة». ـ «لكنهم أفضل منك… معطفٌ طويلٌ صيفًا؟ منحرف أو دكتور بلاك جاك لا غير». ـ «هَرْمف! حين تكون سيّدًا مثلي…» ظنّها مدحًا فانتفخ. ترى «التفكير الإيجابي» هل يعني «غباءً مطلقًا»؟ وتركتُه يهلوس، لأن لا فائدة من تصحيح أوهامه.
لمّا انعطف شبّان الجودو تذكّرت: «بالمناسبة، أنتَ اخترتَ الكِنْدو في حصة الفنون القتاليّة، صحيح؟» نحنُ الثواني نختار بين الجودو والكندو. معدات الكندو باهظة فاخترتُ الجودو، لكنّي قلت لأهلي إنّي متردّد ليُعطوني مال الكندو… أنا خيميائي مصروف الجيب! بما أنّ زاياموكوزا لم يكن معي، فلابد أنّه اختار الكندو ــ أو لعلّ وجوده أُلغي من الأصل. ـ «هـم، نعم اخترتُ الكندو طبعًا. ما الأمر؟» ـ «…أشفق على من سيصير شريكك». هو مزعجٌ حتى في الدروس، فكيف والكندو ميدانه؟ ـ «لستُ أُظهر قوتي الحقيقية لطلابٍ عاديين». ـ «آه، فهمت…» ترجمة هذا: «أ-أنا أُخفي قوّتي لأنه محرج… أ-أريك إيّاها وحدك يا هاتشيمان!» مقزز. لكن طالما لا يؤذي غيره فهذا جيّد. وجود المنعزل مقبولٌ ما دام لا يضرّ أحدًا. «الحَجَلُ لا يُرمى لولا صوته». وإن صمت صار دون الحجل، منبوذًا أو مكروهًا.
سألني بامتعاض: «وأنتَ يا هاتشيمان؟» ـ «أحد نادي الجودو يدرّبني، وباقي الوقت أتدرّب على السقوط». ـ «هذا حضانة لا تدريبًا…» تمسح عرقه بكمّه. لكن لا عجب؛ ففي حصص الرياضة يحمل أهل النادي العبء: عروضٌ وترتيبٌ وتنظيف. عملٌ مجّانيّ هو الجانب المظلم للرياضة. وقد يصير الرياضيّ «عبدًا» كما تُشيع الرؤوس… في رأسي. إذًا لو كان أولئك «يحرسونني» فلا مفرّ. وأسفٌ لهم، لكن المنعزل مضطرّ لحضور الدروس كلّها، فليتحمّلوني قليلًا. عندها دقّ جرس انتهاء الاستراحة. مسحتُ الغبار عني: «إذًا عائدٌ للفصل». تبِعَني بخطًى واثقة: «فلنسرع! هيا! سأسبقك!» يشير للمبنى. بترجمة حديثه: «لنعد… لكن لو عدنا سويًّا سيثرثر الناس… محرج…» لن أغضب، لكنّ الأمر مقزز قليلًا.
بعد انتهاء الحصص اتجهتُ لغرفة النادي. الصفوف مكيّفة، لكن الممرّات لا. ممرُّ مبنى «الخاصّ» باردٌ نسبيًّا، وغرفة نادي «الخدمة» دومًا ظليلة تهبّ فيها نسمة، أو لعلّ برودتها من هيبة سيّدتها! ما إن فتحتُ الباب حتّى وخزتني نظرة يوكينوشيتا الثاقبة. ـ «…أهلاً». ارتجفتُ؛ تُرى قرأت أفكاري؟ هل هي «إسبِر» أم أنا «ساتوراري»؟ ـ «…أوه، أنتَ؟ بدوتَ لامعًا كبرمائيٍّ يزحف». ـ «كنتُ أتنشّق شبابًا، لا حيلة. ولا تقولي هذا قُرب المعلّمة هيراتسوكا». جلستُ في مقعدي المقابل. كانت في مزاج سيئ لكنها صامتة غير عادتها. فما الخطب؟ أن تكون مثل موظفةٍ مزاجيّة يفسد الجو! سحبتُ كتابًا أُقلّب صفحاته وأنا ألمحها تتحسّر: …«فوو». مجرّد قراءة تُتعبها؟ فلتترك الكتاب إذن… لكنْ «مولّد التوتر» لا يُصلحه غير نفسه. كنت سأغوص في قراءتي حين انفتح الباب فجأة: ـ «ياهالو!» اندفعت يويغاهاما مفعمةً بحَرِّ منتصف الصيف، وجلستْ. رفعت تنورتها قليلًا، استبدلت جوارب الكاحل، وطوت كمَّي قميصها: وضع صيفيّ كامل. «حـار!» وأخذت تُهوّي صدر بلوزتها. رجاءً توقّفي؛ فأنا «أضطرّ» للنظر. ثم إنّها لا تفكّ أزرارها أبدًا… كأنّ الشريط الأماميّ غالٍ لديها. تواريتُ في كتابي، لكن الورق رطبٌ فانكمش تحت قبضتي. يا للخسارة لمحِبّ الكتب… والرطوبة إحدى بلاءات الصيف. وإن كانت يويغاهاما بريئة، فقد رمقتها بحنقٍ «غير عادل». لكنّها لم تلاحظ، إذ انتبهت إلى يوكينوشيتا: «مالكِ، يا يوكيّنون؟» قَفَزتْ حاجز الخوف لتخاطبها مباشرة، دليلٌ على أنّ صداقتهما تقدّمت منذ عيد ميلاد يويغاهاما. يوكينوشيتا تردّدَت لكن أجابت: «ليتنا نملك مجفّف شعر هنا…» ـ «آه، الرطوبة؟ فعلًا تُفسد النعومة!» قالت يويغاهاما وهي تُمرّر أصابعها في شعرها. ـ «أقصد أنّ الرطوبة تفسد الكتب… أمرٌ مزعج». يوكنوشيتا لمّست كتابها متنهّدة، أمّا يويغاهاما فدارت خلفها: «لكن شعرك ناعم، وإنْ كان طويلًا يُشعرك بالحر». ثم أخرجت ربطة وفرشاة، جمعت شعر يوكينوشيتا ورفعته في كعكة: «الشعر الطويل حار صيفًا؛ هكذا ألطف، أليس كذلك؟» ـ «أ-أظنّ…» خجلت يوكينوشيتا من أن يعبث أحد بشعرها. «ماذا تفعلين…؟» لكن يويغاهاما تدندن حتى انتهت. ثبّتت الكعكة بدبوس. ـ «تمّ! أتطابقنا قليلًا!» ابتسمت. فعلاً التسريحتان متشابهتان. ـ «أشبه بالتقليد المزوَّر». ـ «هيه! لا تصِفه هكذا!» انفجرت بي. لكنّي أوضحت: «أقصد كـ«تاماغوتشي» و«تاماغو ووتش»…» ـ «وهل يزعجك تشابه تسريحة صديقتَين؟» سألتُهم. أجابت يويغاهاما ببساطة جميلة: «ما دمتَ صديقًا، لا يزعجك ذلك». فلم أجد ردًّا. تنفّستُ ساخطًا وعدتُ لقراءتي. يوكينوشيتا، التي عانت من «العبث»، فتحت المرآة: «ما الذي فعلته بشعري…؟» ـ «هاك!» ناولتها يويغاهاما مرآة جيب وردية. تصفّحت يوكينوشيتا انعكاسها ثم أغلقتها: «…كنتُ أشتكي من ضرر الرطوبة للكتب، لا للشعر». ـ «آآه… ظننتُ…» حكّت يويغاهاما رأسها بارتباك. فالكلمة الإنجليزيّة «dryer» جعلتها تفكر بالشعر لا الكتب؛ اهتمامات مختلفة.
وفيما تُحاول تدارك الموقف، احمرّ وجه يوكينوشيتا وقد راق لها الرفع، رغم توتّرها. أغرقتها يويغاهاما عناقًا: «صحّ؟!» ـ «لا حاجة لكل هذا الحماس…» تظاهرَت بالضيق، لكنّها تُخفي خجلها. أمّا أنا فقلبي كالثلج… ليس لي مكان وسطهنّ. طويتُ كتابي هامسًا للهرب، لكن الباب طُرق: طَق طَق. ـ «تفضّل!» قالت يوكينوشيتا. فدخل ثلاثة فتية عابسي الوجوه: بطاطس، بطاطا حلوة، وقلقاس… حرارة الصيف وعَرَق الرجولة جعلت الغرفة تغلي. ارتفعت حرارتي ثلاثَ درجات!
وقف الثلاثة بانضباط واحد. أحدهم مألوفٌ لي؛ فتى البطاطس من درس الجودو. لمحني فقال: «أوه، أنتَ من حصة الرياضة…» ـ «آه…» رفعت يدي تحيّةً مقتضبة. شابٌّ طيّب اعتنى بي، لكن اسمه هارب. نظرَت يويغاهاما ويوكينوشيتا إليّ: ـ «صديقك؟» ـ «معرفة عابرة؟» لماذا تفترض يوكينوشيتا أنّ لا أصدقاء لي؟… ليست مخطئة تمامًا. «نعم، معنا في الدرس لكن لا أعرف اسمه». ـ «معه ولا تعرف؟» تنهدت يويغاهاما. لكنّي تعمّدت عدم تذكّر الأسماء؛ فقد لُقّبتُ «بالمريب» في الإعدادية لحفظي أسماء الجميع! ابتسم فتى البطاطس لأنه هو أيضًا لا يذكر اسمي، فتساوينا. كان صوته عميقًا: «أنا شيروياما من نادي الجودو، وهذان صغار: تسوكي، فوجينو». شكرًا على تقديم «الإخوة الجذريين»… بطاطس، حلوة، قلقاس. قدّمت يوكينوشيتا نفسها ويويغاهاما ونادي الخدمة. ثم سألتهم: «أتعرفون نشاط نادينا؟» ـ «قالت المعلّمة هيراتسوكا إنكم تحلّون مشاكل المدرسة…» أجاب شيروياما. عَقدت يوكينوشيتا حاجبها: «بدِقّة لا…» ـ «لكن قريبٌ كفاية»، قالت يويغاهاما. في نظر الغير نحن «متخصّصو نصائح» أو «خدمة مَهَمّات». فسألتهم: «إذن ما حاجتكم؟» همّ بطاطا حلوة وقلقاس بالكلام لكن شيروياما قطعهم: «في الآونة الأخيرة، كثير من أعضائنا يرغبون بالانسحاب. بعضهم سلّم استقالته بالفعل». واضحٌ أنه قائد النادي. سألت يوكينوشيتا: «أتدري لماذا؟» تردّد: «حسنًا…» قلتُ: «هكذا هو نادي الجودو: رائحة، إجهاد، تمرين قاسٍ. ماذا تتوقّعون؟» ـ «لا رائحة فينا!» صرخ بطاطا حلوة. ـ «لكنّك محق في الإجهاد والتمارين!» أضاف قلقاس. وبَّخهما شيروياما: «اصمتا». ثم نظر إليَّت يوكينوشيتا: «و أنتَ أيضًا». «حاضر…». جيّدٌ أنّنا جميعًا مُنضبطون!
أومأت يويغاهاما لشيروياما ليكمل. قال: «أحد خريجي السنة الماضية، وهو الآن طالب جامعة، يأتي لمراقبة التدريب… وهو…» تلكأ، لكنّ رفقاءه صرخوا: ـ «فظيع!» «يُعذِّبنا!» ـ «يصرخ: العالم قاسٍ! ثم يُرهقنا! يرميك أرضًا بعنف!» ـ «ومن يخسر أوّلًا عليه التسوّق له! يجبر أحدنا على أكل عشرة أطباق دون!» ـ «وإذا جرّبتَ حركة عليه يغضب!» «مجنون!» زمجروا بصوت واحد حتى أسكتتهم نظرة يوكينوشيتا. قالت: «فهمنا؛ تريدون منّا التعامل مع هذا الخريج؟» لكن شيروياما هز رأسه: «مستحيل». ـ «لماذا؟» سألت يويغاهاما. ـ «لو كان يستمع لما وصلنا إلى هنا… وبالإضافة، لسنا من النادي فلا جدوى إن تدخّلنا». سألته: «وماذا عن المشرف؟» ـ «لا خبرة له في الجودو، ويرحّب بالخريج لأنه يتولّى القيادة». ـ «والسنة الثالثة؟» ـ «اعتزلوا بعد البطولة». أطرق قليلًا: «إنّه موهوب؛ يفوز دائمًا واحدًا لواحدٍ، لذا لن يردّ على أحد». استنتجت يويغاهاما: «إذن تطلبون أعضاءً جدد؟» أومأ: «نعم، وإلا فلن نجمع فريقًا». تمتمتُ: «التجنيد صعب؛ ليس عقدَ هواتف». الجودو ليس شعبيًّا. قالت يويغاهاما: «لا تُقنعون المنسحبين بالعودة؟» ـ «إقناع من يحبّ الجودو أصلًا أسهل ممن لا يهتمّ»، وافقتها يوكينوشيتا. عانقتها يويغاهاما فرِحة، ويوكينوشيتا تُبعدها بلطفٍ محرج. قلت: «من يهرب لن يعود». سألْتُ شيروياما: «أتظنّهم سيعودون؟» تنفّس وقال: «…لا أظن».
بدت على شيروياما لحظةُ تفكيرٍ في هذا الاحتمال، لكنه هزَّ رأسه نافيًا بخفة.
نعم. أشعر أنّه في الأندية الرياضيّة، ما إن تنسحب فلن تعود على الأرجح. منطقها يختلف عن نادٍ غير رسمي مثل نادينا؛ فهي تسير وفق منظومة قيم خاصّة، مثل البنية الهرميّة والتلاحم الجماعي. تلك فضيلتها، لكنها في الوقت نفسه مصدر علّتها. كلمة «روابط» قد تعني أيضاً «قيوداً». لهذه الصداقة ذاتها ستنظر إليهم بعيون أشدّ نقداً بعد رحيلهم. إن خرج أحدهم وعاد، فقد تراهم خونة. وإن كان سبب المغادرة تدريباً قاسياً من خرّيج سابق، فلن يرجعوا ما دام ذلك الأمر بلا حلّ. قالت يوكينوشيتا: «…على أيّة حال، علينا أن نعاين الموقف بأنفسنا قبل أن نحكم». أجبتها: «صحيح. وتحمّل الناس يختلف. فلنرَ تدريباتكم أولاً». فربّما كان تدريب ذلك الخرّيج الصارم لا يُعدّ مشكلة أصلاً، وأن المنسحبين كانوا ضعفاء. فبعض الفتية تحمّلوه وبقوا. أومأ شيروياما، أوّل الباقين صموداً. «حسناً. لن يأتي اليوم، فماذا عن الغد؟» لم تكن لديّ خطط لكلا اليومين، فتركت القرار ليوكينوشيتا؛ نظرتُ إلى الفتاتين، فلم تبدُ يويغاهاما معترضة هي أيضاً. قالت يوكينوشيتا: «لا بأس». ورفعت يويغاهاما يدها: «إذن نراكم غداً». «شكراً». انحنى بوتا-ياما بأدب، وتبعه زميلاه وغادروا غرفة النادي. راقبتهم ثم تطلّعتُ من النافذة. كان الصيف قد بدأ، وما تزال الشمس عالية حتى المساء؛ وتخيّلت حرارة الدوجو لاهبة.
في اليوم التالي لزيارة شيروياما وأعضاء الجودو، قرّرنا التلصّص على تدريبهم. كان الدوجو في الطابق الأرضي من مبنى الصالة، بنوافذ منخفضة تسمح لنا بالتسلل من الخارج. عادة ما ترسم الأندية المدرسيّة صورة حماسيّة: عَرَقٌ متطاير، صراخ حادّ، دموع تأثّر؛ كأنّها خربشات مراهقة على جدار شبابهم. لكن الواقع مختلف: العرق يُعْصَر منهم، والصرخات خافتة، والدموع مجرّد دموع. الأعضاء القلائل يعملون بجهدٍ يوشك أن يقيّئوا دماً. …لا يبدو عليهم الاستمتاع إطلاقاً. والسبب الأكبر ذلك الخرّيج. رجل صارم ببدلة جودو، بنيته تميّزه عن الآخرين. وقف يراقبهم بحزم. لكنهم كانوا يجرون فحسب. يدور شيروياما والاثنان من الأمس وآخرون حول الدوجو بلا نهاية. أهذا ضروري للجودو؟ الجري في هذا الحرّ الخانق يبدو قاسياً. رمق الخرّيج الساعة ونهض ببطء: «يكفي. من تجاوز الزمن فليُكمل جرياً بقدر تأخّره. والبقيّة إلى التمرين». ومن دون استراحة بدأوا السَّبارينغ. همست يويغاهاما من الخلف: «يا لقسوته…». وأضافت يوكينوشيتا –ملاصقةً لها–: «حقاً، يبدو شاقّاً صحياً وأمنيّاً…». مع أنّ لي شكوكاً، بدا التدريب حتى الآن مشروعاً على نحو مدهش، لكن ما إن بدأوا تمرين الهجوم تبدّلت الأجواء. صرخ: «أنت فاشل! اجرِ حتى تموت! لن تتعلّم شيئاً إن عجزت عن حركة واحدة! هكذا علّمني أسلافي؛ يجب أن تتعلّم بجسدك!» واصل تحطيمهم بحركاته. «لن تنجوا هناك إن بكيتُم من هذا! الأندية الثانويّة سهلة؛ العالم أقسى!» انهمرت محاضراته. صمتنا نحن الثلاثة. بصدق، شعرتُ بأنّني في بعدٍ آخر. لعلّ هناك أندية أشدّ صرامة، لكن الأغرب خضوع الأعضاء بلا اعتراض. لم يَرُق لي ما أرى؛ من الطبيعي أن يتجنّب المرء ما يكره، ومن يظلّ أستغربه. لذا لا ألوم من انسحب؛ لومهم هو المشكلة. وبذلك تبخّرت خطّة استعادة الأعضاء. قلتُ مبتعداً: «رأيتُ ما يكفي»، ووافقني الاثنان؛ عدنا إلى غرفة النادي، وقبل أن أغادر التفتُّ أخيراً: لمحتُ شيروياما بالكاد، يتدرّب صامتاً. أجبرت نفسي على الانصراف. علينا الآن التفكير في حلّ.
ما إن دخلنا غرفة النادي حتى شعرتُ بالراحة؛ التكييف بدا جنّة بعد حرّ الخارج. شربتُ ماكس-كوفي المثلّجة وقلت: «ما انطباعكما؟» أجابت يوكينوشيتا بعد تأنٍّ: «صعب الحكم… ليست لديّ مقارنة لكن لا يبدو صحّياً». أمّا يويغاهاما فبساطةٌ خالصة: «مستحيل أتحمّله…». سألتني: «وأنت يا هيكي؟» قلتُ: «غير مقبول». لم أحتكّ بالرياضة كثيراً؛ فهي تتطلّب عملاً جماعيّاً. لذا معرفتي سطحية، لكن طريقة نادي جودو سوبو لا تناسب قيمي. قالت يوكينوشيتا: «نادراً ما نتفق هكذا». وكانت نظرتنا جميعاً سلبيّة، وهذا يسهل العمل. أعادت يويغاهاما: «طلبهم كان استقطاب أعضاء…». قلتُ: «إذاً علينا التجنيد». قالت يوكينوشيتا: «لكن علينا تحسين صورتهم». يجب إظهار أنّ الجودو نفسه رياضة مفيدة، لا مجرد نادينا، وإلا فسيصعب جمع أعضاء. وهنا صفّقت يويغاهاما فجأة: «ماذا لو قلنا إنّ الجودو يجذب البنات؟» …ساذج. اعترضتُ فوراً: «هل تصدّقين هذا؟» احمرّت: «انسَي ما قلت». وجلست محبطة. ثم تنهدت يوكينوشيتا: «ربّما نقول إنّه يساعد على الحمية؟». قلتُ: «هؤلاء شباب رياضيّون شرسون؛ الأكل جزء من التدريب…». وتقزّزت يويغاهاما: «وهم عضلات ضخمة…». عجزنا عن فكرة مناسبة. وبعد تفكير طويل مدّت يوكينوشيتا جسدها وقالت: «إذن يجب تغيير صورتهم جذرياً». قلتُ: «محال إزالة الصور النمطية بسهولة». تأوّهت يويغاهاما: «أفنجرّب التجنيد المباشر؟» قلت: «لو كان ينفع لامتلأ النادي. ثم الانضمام منتصف العام صعب». أومأت: «ربما معك حق». واصلتُ: «هناك أيضاً الخوف من مقارنة المستوى». قالت يوكينوشيتا: «إذاً لنبُـرز أنّ بوسعهم التقدّم سريعاً». قلتُ: «بل ألا يحرَجوا بالانضمام الآن». وافقت يويغاهاما: «حقاً، رؤية الآخرين مذهلين محبطة…». فعلّقت يوكينوشيتا ساخرة: «كما توقّعتُ من هيكيغايا المتفوّق في التأخر!». تجاهلتها فأكملت: «علينا إقناع الطلبة أنّ النادي ضعيف لا يرهب، مع وسيلة واضحة لتجنيد منتصف العام». عبارة قاسية… وزادت المهام دون حلّ. وما زلت أفكر حين رفعت يويغاهاما يدها بحماسة: «أوه! ماذا عن فعالية؟ كثير من الأندية الجامعيّة غير الرسميّة –إنكاره– تُقيم فعاليات لجذب الناس». استغربنا اللفظ؛ شرحت يويغاهاما أنه اختصار لـinter-collegiate. وتحمّست: «يجتمعون من جامعات مختلفة لبطولة تنس ترفيهيّة أو بولينغ أو شواء، وأحياناً يدعون طلاب الثانويّة. فيمكننا بطولة جودو ممتعة بمشاركة أعضاء النادي بروح ودّية». فكرتُ: «للْمتعة»؛ قد يستدرج هذا المهتمّين، ويخفّف رهبة الفارق في المستوى. لكنّ يوكينوشيتا تساءلت: «هل تسمح المدرسة؟». قلتُ: «مدرستنا متساهلة بنشاطات الأندية». ومع ذلك علّقت: «لكن إن جاؤوا للمتعة قد ينسحبون». أقررتُ: «على الأرجح». إذاً يجب تغيير البيئة. فهمتْ يوكينوشيتا مقصدي: «أي إبعاد ذلك الخرّيج». هززت رأسي موافقاً. اعترضت يويغاهاما: «لكن القائد معجبٌ به…». قلتُ: «إنها عبادة عمياء؛ شيروياما يتقبّل الظلم كمسَلَّم». وتساءلت: «كيف نُبعِده بلا مساعدة النادي؟». اقترحت يويغاهاما: «إبلاغ المعلمين أو المجلس!». رفضنا؛ فالمدرسة ستتستّر. قلت: «إذن نجعله يرحل طوعاً». استنكرت: «لن يصغي لغرباء». أجابت يوكينوشيتا بسخرية: «نحتاج من هو أرفع منه». قلتُ: «فلْنجلبه». استغربتا؛ سألت يويغاهاما: «لكن مَن؟». ابتسمتُ خبثاً: «أعظم غريب في العالم: المجتمع». فهمت يوكينوشيتا، وابتسمت: «أي ليس من معارفك…».
في اليوم التالي شرعنا في تنفيذ الحدث. شرحنا الفكرة لشيروياما وزملائه: فعالية كبيرة لإثارة الاهتمام وجذب الأعضاء. ولم نذكر خطّتنا الخفيّة؛ لا حاجة لإثارة المقاومة. ثم تفاوضنا مع المدرسة: بما أنّ البطولة مفتوحة للجميع، طرح الأساتذة أسئلة. الحصول على الموافقة الآن يجنّب العقبات لاحقاً؛ وافق المشرف بسهولة، قلقاً أصلاً من تناقص الأعضاء، مع تنبيهات أمان بسيطة. المكان الدوجو، فلا مشكلة. بقي المشاركون. لا بد أن أشارك، وأؤمّن الحد الأدنى للانطلاق. أعدّت يوكينوشيتا مخطط البطولة، طبعت منشورات وعلّقتها في كل مكان بمساعدة أعضاء الجودو. لكن الاعتماد على الإعلانات محدود؛ غالباً تُجمع المشاركات عبر العلاقات الشخصيّة، ولا أنا ولا يوكينوشيتا نملكها، وشبكة الجودو ضعفت، ويويغاهاما وحدها لا تكفي. إذاً علينا مسار أشدّ فاعلية وكفاءة. ما أكبر عامل جذب للجمهور في الفعاليات؟
اختيار اللاعبين.
بطبيعة الحال يظل مضمون الحدث مهمًّا، لكن بما أنّها بطولة جودو لا جديدَ مثيرًا فيها، كان لابدّ من شيءٍ آخر يجذب الناس. ولحسن الحظ، خطر ببالي شخص في المدرسة يملك قدرةً هائلة على استقطاب الجمهور.
ذهبتُ أنا ويويغاهاما ــــ أو بالأحرى يويغاهاما وحدها تقريبًا ــــ للتفاوض معه.
خلال استراحة الغداء تضجُّ القاعة 2-F بالثرثرة دائمًا، ومع اقتراب العطلة الصيفية كان النشاط أكبر من المعتاد. في ذلك اليوم قرّرتُ ألا أخرج وبقيتُ داخل الفصل.
كان الهدف حجزُ مشاركةٍ صادمة لهاياتو هاياما في بطولة سوبو الثانوية للجودو: «جائزة S1 الكبرى». (الاسم من تأليفي اللحظي).
تمكّن هاياما من جذب جمهور لا بأس به حتى في تلك المباراة الارتجالية على العشب قبل مدّة؛ ومع إعلانٍ مسبقٍ كهذا نتوقّع حشدًا أكبر. وجوده ضرورةٌ قصوى.
ومع ذلك، المفاوِضة الرئيسة لم تكن أنا بل يويغاهاما.
«حسنًا، سأذهب لأكلّمه». بعد أن اشترت فطيرةً لغدائها عقدنا اجتماعًا صغيرًا ثم عادت مبتهجة إلى شلّتها، بينما جلستُ أنا في مكاني.
والآن سأراقب الموقف بكلّ انتباه، آكل وأصغي. إن تعسّر الأمر على يويغاهاما فسأُسندها من بعيد؛ أسهل قولًا من فعل.
بادرت يويغاهاما بالموضوع فورًا: «سمعتُ أنّ نادي الجودو سيُقيم بطولة داخلية!».
«همم». تناولت ميورا فطيرتها بلا أيّ اهتمام، لكنها على الأقل أصدرت أصواتًا تدل على الاستماع؛ ربما كانت لطيفةً نوعًا ما.
ومع رؤيتها تمسك الفطيرة بيد والهاتف بالأخرى، كنتُ أترقّب أن تعضّ هاتفها خطأً. لا تستعملوا الهاتف أثناء الأكل، خصوصًا مع الآخرين؛ وحدنا نحن المنعزلون يُسمَح لنا بذلك.
دون أن يثنيها موقف ميورا واصلت يويغاهاما: «ستكون، أمم، مسابقة “مَن الأقوى في المدرسة!” شيءٌ كهذا؟».
قال هاياما فورًا: «آه، صحيح، رأيتُ المنشور». كالمتوقَّع منه، يصغي ويندمج حفاظًا على الانسجام الاجتماعي.
كانت يويغاهاما تعوِّل على هذا حتمًا، فحوّلت الحديث إليه بسرعة: «تبدو متحمّسًا يا هاياتو! لمَ لا تشارك؟».
دعوةٌ بلا مجهود… فلا شيء يوحي بأنه بارع في الجودو…
«هـه؟ أأنا؟».
كما توقّعت؛ بدا مرتبكًا. سمعة هاياما أنه الفتى النظيف الساحر، نقيضُ الجودو تمامًا.
ولستُ وحدي مَن رأى ذلك. ضحك توبي قائلًا: «مستحيل، هاياتو مش بتاع جودو أصلًا»، وانضم ياماتو وأوكا إلى ضحكته.
تقدّمت يويغاهاما: «يمكنك أنت أيضًا يا توبي-تشي؛ تبدو قويًّا، صح؟ ما رأيك تشكِّل فريقًا مع هاياتو؟ المباريات جماعية من ثلاثة».
«هـه؟ الجودو يمكن يكون…».
إذًا استراتيجيتها أن تمهّد الطريق بهاياما عبر توبي. ربما كانت خطةً محسوبة وربما كلامًا عفويًّا؛ الله أعلم.
ثمّ تفاعلَ عنصرٌ أصعب حسابًا: إيبينا، التي تمتمت بتردّد: «…معًا؟ جـ…جودو؟ أعجبني!». كأنّها بحثت عن الكلمات مليًّا.
رمتها ميورا بمنديل: «إيبينا، تفضّلي». بدت قاب قوسين من نزف أنفها.
وضعت إيبينا المنديل على أنفها ورفعت إبهامها بحماس: «أعجبني! الجودو رائع!».
لسبب ما تحمّس توبي فجأة: «آآه… الجودو يمكن… يمكن أقدر عليه، صح؟».
الفرق الدقيق في النبرة… يا للغة اليابانية الصعبة.
«أولادٌ يتشابكون ويقعون في الحب؟ مَن؟ مَن يقع في حبّ مَن يا هيكيتاني؟!».
لا تشيرِي إليّ تحديدًا… أحسستُ عيونًا حادّة فحوّلت نظري. وبينما أدير وجهي، تقدّمت المفاوضات.
لمّا عدتُ بنظري كان توبي يربّت ظهر هاياما بحماسٍ جديد: «تعال يا هاياتو!».
قال هاياما: «حسنًا، لا تتاح فرصة كهذه كثيرًا». ومع دفع يويغاهاما وتوبي لم يستطع الرفض، فمال أكثر للمشاركة.
هكذا مَن يملك «الهالة» يجبره الجوّ على التصرّف كي لا يكسِره.
ثم جاء المسمار الأخير:
«لو شاركتَ يا هاياتو سأحضر للمشاهدة»، قالتها ميورا فأبرم هاياما قراره بابتسامة ساحرة: «إذن سأشارك».
مهمة منتهية. الآن ننشر خبر مشاركته فيتضخّم الجمهور وتتزايد المشاركات.
قال ياماتو وأوكا فورًا: «إذن سنشارك نحن أيضًا…» ـــ «أجل».
فالفتية في جوهرهم يميلون لفنون القتال… أو بالأحرى يستهويهم لقب «الأقوى». بمجرّد المحفّز يتذكّرون ذلك الشعور.
وهكذا تقرّر: هاياما، توبي، أوكا، ياماتو؛ الرباعي الذهبي سيشارك، وميورا ستحضر. تشكيلة النجوم في سوبو.
انتبه هاياما فجأة: «لكنها فرق من ثلاثة…». نهض ومضى. تبعتُه بعينيّ وهو يقترب منّي بلا أن تتحرّك مقلتاي.
وقد وقف أمامي مبتسمًا بأسنان لامعة: «هيكيتاني، هل تنضمّ لفريق الجودو معي؟».
ماذا يقول فجأة…؟ فهم عقلي كلماته لكن قلبي أبى. ردّدتُ الرفض التلقائي: «هـه؟ أأنا… مش ممكن… لأسباب». هكذا يجيب المنعزل مجاملةً.
لكن هاياما لم يتراجع: «فهمت. توبي والآخرون سيكوِّنون فريقًا، سأتخلّف وحدي».
«أوه… صحيح…». تمتمتُ مرتبكًا وهو يحدق بي.
هز كتفيه: «ما رأيك؟… أنت من اقترح هذا الترتيب سابقًا، أليس كذلك؟».
آخ، يشير إلى جولة التدريب المهنية حين فصلتُه عن رفاقه، والآن الكرة في مرماي. رفضي سيعني انسحابه، وذلك سيئٌ لنا. فوافقتُ على مضض: «لكن ينقصنا ثالث».
ابتسم بثقة: «هل تدعو واحدًا آخر؟».
«ليس لي أصدقاء أدعوهم». حاولتُ رمي العبء عليه، فتفلّت منه: «ماذا عن ذلك الشخص؟».
«ذلك الشخص»؟ حين تفكّرت تذكّرت: تـوتسُكا؟ …لا، قال: «زايموكوزا، يبدو قويًّا».
آه، هو…
إن كان اختيار هاياما فلا مهرب. وأومأتُ يائسًا، ففهمها شكرًا وعاد لمقعده.
كانت البطولة للمتعة وحسب، لكن الإقبال والحضور فاقا التوقعات؛ لعلّ توقيتها قبل العطلة مثاليّ. امتلأ الدوجو الصغير حتى وُقف الجمهور.
تفحّص شيروياما المشهد من المقدمة، وقال مندهشًا: «لم أتوقع هذا العدد… شكرًا لكم».
لكن شكرَه لن يفيد أحدًا؛ عملُنا يبدأ الآن وغالبًا لن يشكرنا بعده.
سألته: «ذلك الخرّيج سيحضر اليوم، صحيح؟».
«أجل، دعوتُه كما طلبتَ؛ سيصل قريبًا».
هذا الأهمّ خارج قدرتي، فاعتمدتُ على شيروياما. حضوره كان أكبر مخاوفي.
أُقيمت طاولة استقبال عند المدخل؛ جلست يويغاهاما سارحة، وخلفها ترسم يوكينوشيتا لوحة الجدول. ثمانية فرقٍ بالمجموع؛ وضعَت فريقَنا قبالة فريق الجودو ليصطدما في النهائي فقط.
قالت دون أن تلتفت: «وضعتُك كما طلبت، لكن عليك الفوز لتسير الخطة».
أجبتُ: «إن خسرنا سنقيم نزالًا استعراضيًّا». زفرت ضجرًا ثم ابتسمت: «على الأقل اخسرْ بشكلٍ لائق».
وصل هاياما ورفاقه ومعهم زايموكوزا المتوتّر. أشارَت يويغاهاما بعلامة دائرة، وكلّ شيءٍ جاهز.
ها هي الستارة تُرفع عن «جائزة S1 الكبرى».
ألقى شيروياما كلمة افتتاحٍ قصيرة، ثم بدأ أول نزال وفاز نادي الجودو بسهولة. فاز فريق توبي أيضًا وبلغ نصف النهائي. وفي النزال الرابع حان دورنا.
قبل بدء المباراة الأولى بيننا وبين خصومٍ مجهولين، حدّد زايموكوزا نفسه الفارس الأوّل، وهاياما الثاني، وأنا «الزعيم» الأخير. انطلق زايموكوزا… فوقع الخصم في «مستنقع زايموكوزا» وانتهى سريعًا بنقطة غامضة.
تلاه هاياما وسط هتافات «ها-يا-تو!» وأطاح خصمه برمية كتفٍ أنيقة؛ صعدنا إلى نصف النهائي دون أن ألمس البساط.
تقدّمتُ إلى مقدّمة الدوجو وخاطبتُ الخرّيج بتهذيب: «ما رأيك في هذه المبادرة؟». ردّ متكبرًا، فدعوتُه للمشاركة: «لِم لا تنضمّ أنت أيضًا؟». تردّد قائلاً إنه سيفكّر، ثم تركته.
مررتُ بشيروياما وأبلغته: «سألاقيه في الجولة الأخيرة، وأنت الحكم. اعتمدتُ عليك في الإخراج». أمال رأسه حائرًا.
فاز زايموكوزا وهاياما مجددًا، وبلغنا النهائي ضد فريق الجودو (تسوكوي، فوجينو، والوافد «يام الياباني»). اقتربت مني يويغاهاما ويوكينوشيتا لتشجيعي. أكّدت يوكينوشيتا أنّ الأمر لن يُحسم إلا بي، ثم بدأ النهائي.
بعد خمس ثوانٍ فقط: «دووف». سقط زايموكوزا كفقمةٍ جرفها الموج. «نقطة!». صُدم الجمهور.
هتاف «هايا-تو» غطّى الصدمة؛ هذه المباراة لا يجوز خسارتها. وقف هاياما وقال لي: «أَحْمِ جسدك». تقدم، لكن قبل أن يبدأ النزال اقتحم الدوجو صوتٌ غريب: «آهاا! وجدتك يا هاياما! تعال للنادي!».
دخلت إيسشكي إيروها، مديرة نادي كرة القدم، بخطٍ وردي وشَعْر أشقر، وأمسكت ذراع هاياما متحديةً الأجواء. حاول توبي التدخل فرفضته بابتسامة، ثم اندلعت مواجهة بينها وبين ميورا التي نهضت متوهجة الغضب.
اقتادتها ميورا خارجةً، ولحقهم هاياما معتذرًا: «عذرًا، سأعود حالًا!»… ولن يعود بالطبع.
تحيّرنا: هل نخسر بالانسحاب؟ اقترحت يوكينوشيتا ببرود: «لن يحدث ذلك؛ سأنافس أنا».
اعترضنا: «أنتِ فتاة!». ردّت: «لم نضع شرطًا يمنع ذلك، وهي بطولة غير رسمية». أصرّت، وبتشجيعٍ من يويغاهاما استعارت زيّ الكندو للبنات: سترة بيضاء و اكاما حمراء، وشعرها مرفوع.
تقدّمت إلى وسط الدوجو بخطى واثقة، وصفّق الجمهور لوصول يوكينوشيتا المهيب.
شيروياما، الحكم، مال برأسه متحيراً، لكنه ما إن التقت عيناه بعينيّ حتّى بدا عليه التفكير، ثم أومأ. يبدو أنّه فهم الأمر على أنّه «عرض».
لكنّه ليس كذلك…
في هذه الجولة الثانية واجهت يوكينوشيتا مرّة أخرى ذلك الفتى «البطاطا الأرجوانية» أو «القلقاس» أو أيًّا كان. اصطف الخصمان وتبادلا النظرات؛ وقد ربحت يوكينوشيتا بمجرد نظرتها.
رُفع العلم، وصاح الحكم: «ابدأوا!»
تحرّك خصم يوكينوشيتا فورًا؛ لا بدّ أنّه حسب أنّ مجرّد إمساك فتاة يكفي ليستغلَّ قوّته في طرحها أرضًا.
لكن ذلك لا ينجح إلا مع فتاةٍ عاديّة.
أتعلم مَن تقف أمامك؟ إنّها يوكينو يوكينوشيتا: إحصاءاتُها الأساسيةُ الأعلى في المحافظة ذكاءً، وتخطيطًا، وبأسًا، وجمالًا. شخصيّةٌ هادئةٌ، حادةٌ، لا ترحم. وفوق ذلك، فائزةٌ دائمة وخاسرةٌ لا تقبل الهزيمة. في جميع المنافسات، هي ـــ على سبيل التنزّل ـــ الأقوى.
لن تسمح للعامة أن يلمسوها حتى.
وفعلًا، لم تدع خصمها يلمس حتى أطراف ردائها.
كانت تنصت لنَفَسه، فتتنبّه للشهيق وتتوقع خطوته التالية؛ ثم تردّ بأمثل ردّ. تدور حوله بخفّة مصارعٍ يراوغ ثورًا، موجّهةً إياه إلى فراغٍ محكم. قبل أن يدرك، كان النصر قد حُسم.
دوّى ارتطامٌ مدوٍّ، ثم عمّ صمتٌ حتى سمعتُ زفرةَ يوكينوشيتا.
تبدّل الهواء؛ لم يجرؤ أحد من الجمهور على الكلام.
كسر السكون رفرفة العلم وصوتُ إعلان الفوز. وحين رأى الجمهور أداءً نادرًا رفيعًا، انفجر تصفيقٌ وهتافٌ مدوّيان. مشت يوكينوشيتا على بساطِ الثناء عائدةً إلى مقاعدنا.
قفزت يويغاهاما وعانقتها: «واو! كان ذلك مذهلًا!»
«هيه… أنتِ تخنقينني»، تذمّرت يوكينوشيتا، لكنها لم تقُم بدفعها. حتى هي لم تستطع تفادي ذلك.
كان المنظر لطيفًا، لكنّ ما فعلته يوكينوشيتا لم يكن «لطيفًا» إطلاقًا: لقد طرحت خصمها أرضًا بمجرد المراوغة… هل هي معلّمة «كينيتشي»؟ لقد سحقت الرجل دون أن يلمسها.
قلتُ: «أنتِ مذهلة فعلًا».
ابتسمت بخبث: «ربما بالغت قليلًا في أول عرض».
«لا أظنّ التنمر أمرًا لطيفًا».
قبل دخولي الحلبة تمطيتُ للمرة الأخيرة: «حسنًا… لننطلق»، تمتمتُ، فجاء الردّ: «عد سالمًا!»
«كن مطيعًا».
هل أنتما أمّي؟!
أخيرًا، المواجهةُ الحاسمة. بانتهائها تنتهي هذه «الجائزة S1» ذات الاسم السخيف.
الجمهور بدأ يتناقص. حتمًا، هذا الجزءُ إضافيٌّ بعد ذروة القصة؛ اكتفى الناس ببطولات هاياما، والانقطاع الدرامي، وحركات يوكينوشيتا البهلوانيّة.
لذا، من الآن سأفعل ما أشاء؛ خطّتي جاهزة، فدعوني أستمتع.
دخلتُ قلب البساط، وكاد خصمي يقترب. رفعتُ يدي أوقفه، ثم ناديتُ باتجاه مقدّمة الدوجو: «ما رأيك؟»
لم يتوقع أنني جادٌّ في استدعائه، فحدّق مرتين. لقد خرقنا قاعدة تبديل التشكيلة في الجولة الفائتة؛ لم تعد هناك قيود. ما يمنعه هو الخجلُ فحسب: خجلٌ من كونه غريبًا عن المدرسة ـــ رياضيّ جودو جامعيّ يُستدرَج إلى لعبة كهذه.
لكن إنْ مالت الكفة نحو خجلٍ أكبر ـــ خجله من رفض الصعود إلى نهائيٍّ أمام جمهورٍ متحمّس ـــ فسيضطرّ إلى المشاركة.
كنت واثقًا أنّه سيختار الأخير.
حبس الجمهور أنفاسه وهو ينهض، يلتقط بدلته ويذهب ليتبدّل. علتْ «أووووه» توقعية.
أما الحكم شيروياما فظل بلا تعبير: «…إنه قوي».
قلت وأنا أعدّل ياقة ردائي: «هذا ما سيُشعل النهائي، أليس كذلك؟»، فأمال رأسه متفكّرًا.
كان أذكىَ مما يبدو، لكن ليس أكثر من ذلك. أعددتُ شيئًا واحدًا: تأمينًا أفضل ألّا أستخدمه.
عاد الخرّيج سريعًا ببدلته، أبعد الطالبَ المستجدّ بيده، وتقدّم يواجهني. عيونه تلتهب غضبًا وإهانة، لكنّ نظرتي لا تُهزم: منظوري يُظلم أقوى الأضواء.
«انحنيا… ابدأا!» أمر شيروياما. تقدّمنا خطوة نقيس المسافة؛ لا اندفاع عنيفًا منه ولا مني. الجودو جوهره السقوط، وكل ما أتقنته في الحصص هو السقوط وحدي… يومًا بعد يوم، سقوطٌ وراء سقوط، حتى صرتُ خبيرًا في تلقّي الضربات.
أعرف أنّي لن أهزمه شرعًا؛ لستُ مغرورًا إلى هذا الحد. لذا حافظتُ على المسافة أنتظر لحظة الهجوم.
لكنَّ المحترف يقرأ أفكار الهاوي سريعًا؛ حين أدرك أنني لن أهاجم تقدّم متعاظمًا، وفي لمح البصر قبض عليّ واقتطع ساق ارتكازي بقطفٍ خارجيٍّ خاطف.
شعرتُ بالأرض تفلت من تحتي وصعقةٍ تعبر ظهري: «…آخ». يا لسرعته! فوق قدرة أيّ سقوط على امتصاصه.
كان واثقًا من نصْره فعاد إلى خط البداية، والجمهور تنهد وبدأ ينهض.
هنا كانت لحظة هجومي. قلت بلا خجل: «العرق يجعل الأرض زلقة للغاية».
حدّق الجميع بي كأنني أهذي: الخصم، الجمهور، يوكينوشيتا، يويغاهاما… وأنا أيضًا. لامبررَ لهذه الحجّة، لكن يكفيني أن تنطلي على شخصٍ واحد: الحكم شيروياما لم يرفع العلم بعد.
لاحظتُ ذلك فأضفت: «فقط للتأكيد… العَثر ممنوع، صحيح؟»
صمتَ شيروياما، ثم حدّق في وجهي وأومأ: «ارجعا إلى خط البداية».
لِم؟ لأنَّ هذا هو «العرض».
استشاط الجمهور، وكذلك الخرّيج: «ذلك كان إسقاطًا واضحًا!» وألقى نظرة أسفل قدميه؛ ما زال أثرُ سحب زايموكوزا اللزج، إذ نسوا مسحه أثناء الفوضى السابقة.
صاح: «لكنها نقطة!» إلا أنّ القرار لن يتغيّر، بل لا يجرؤ الحكم على تغييره. ثم ذكّرته: «الاعتراض على الحكم يعني الاستبعاد».
«ماذا؟» تحوّل غضبه إليّ. صدقًا، كان مرعبًا.
تماسكت: «هكذا هي الدنيا، أليست قاسية؟»
قطّب وِجهًا مُرّا؛ وقد أدرك إعادته لعبارته. عاد مغمورًا بغضبٍ كامل.
«ارجعا إلى خط البداية»، قال شيروياما مرّة أخرى، فعاد الخرّيج مُكرهًا، وهو يحدّق فيّ بعينين داميتين.
أدركتُ أنّ حيلتي مؤمَّنةٌ لمرةٍ واحدة؛ لا مجال لتكرارها. شاحبٌ حكمُنا، والجمهور متململ.
«ابدأا»، نطق الحكمُ في ضعف، حتى الهتافات خمدت، وبعضهم غادر. فصار نفَسي مسموعًا وصيحات الخصم واضحة.
هكذا سيسمعني جيدًا حين أكلّمه: «أليس هذا طريفًا؟»
رفع حاجبًا مرتابًا؛ لعلّه لم يجرؤ أحدٌ على الكلام أثناء نزال. أحسستُ عيون الحضور علينا.
تابعت، محافظًا على هدوئي: «لقد التحقتَ بالجامعة بمنحةٍ رياضية… مدهشٌ أن تجد وقتًا لتتفقّد ناديَك القديم.»
توقّفت قدمُه. «…اصمت، لا تعرف شيئًا»، واشتدت قبضته على ياقتي، لكنه لم ينظر إليّ؛ كان يرصد الجمهور حائرًا بما يُقال.
أضفت بخبث: «ناديك الجامعيُّ ليس ترفًا، أليس كذلك؟ الجِدّ هناك، بينما “يمكنك اللعب فقط في الثانوية”.»
«اصمت». تقدّم خطوةً يُنهي النزال بسرعة ويُسكتني.
تراجعتُ محافظةً على المسافة، وابتسمت: «الدنيا قاسية فعلًا، كما قلتَ.»
كم سمعني؟ لا يهم؛ يكفي أن يخشى احتمالَ سماعهم. قلتُ الطعنة الأخيرة: «لم تَعُدْ إلى هنا؛ بل هربتَ من هناك.»
بدتْ كمن لُدِغ؛ استدرجتُه. جذبتُ كُمَّه دعوةً، فتوتّر وأطبق بقوّة. اندفع نحوي، لم أتفادَ، ركّزت على التوازن، وأمعنتُ في القوّة.
قلبتُه فوق كتفي، وسمعته يقول من خلفي بنبرةٍ حادّة وبها مسحةُ هدوء: «اصمت… أعرف كل هذا.»
ثم كان السقوط.
ارتفع العلم فورًا، وتعالى التصفيق. صاح الحكم بأوضح صوت: «نقطة! انتهت المباراة!»
وبالمقابل صدر صوتٌ خافتٌ بائس: «…آخ».
تسارعت الأيام المتبقية قبل العطلة كالعاصفة، وبعدها بقليل كنتُ أعدُّ الدقائق لنيل الراحة. دخلتُ غرفة نادي الخدمة أُدندن.
بضع ليالٍ فقط وتبدأ العطلة، وكان التسكّع بانتظاري.
فتحتُ الباب: يوكينوشيتا كالعادة تقرأ عند النافذة، ويويغاهاما منكفئة على مكتبها والهاتف بيدها. ألقيتُ نظرةً أخيرةً على المشهد.
«مرحبًا»، حيّيتهما وجلستُ مقعدًا أبعد.
رفعت يوكينوشيتا رأسها: «آه، هل تعافى ظهرك؟»
«ليس تمامًا، لكنّني معفيٌّ من الرياضة الآن.»
رفعت يويغاهاما رأسها: «جودو، صحيح؟ رائع أنّك وافيْتَ بالوعد.»
في ختام البطولة طرحني الخرّيج بقوّة، وأجبرني ـــ بصفتي الخاسر ـــ على التعهد بعدم الاقتراب من نادي الجودو ثانية. غاضبتاني لذلك؛ واتهمتاني بإهانة الجودو. وهكذا خُطف مني حلمُ الذهب الأولمبي قبل أن يولد.
ومع ظهري هذا لا أقدر على الجودو. يؤلمني، وإن كنتُ سعيدًا بالإعفاء من الرياضة، رغم أنّ السلبيات أكثر.
قالت يوكينوشيتا: «حسن أنك خرجتَ بهذا، كن شاكرًا لشيروياما.»
أومأت يويغاهاما: «كان يرمقك بغِلٍّ كأنه سيقتلك يا هيكي.»
فكّرت: «همم، شيروياما…» لم أتحدث معه منذ ذلك الحين؛ فالعهدُ يحرمني، وكِلانا يتجنّب الآخر. لقد وضعته في موقفٍ صعب؛ لطفٌ أن نبتعد.
سألت: «ما وضعُ النادي الآن؟»
كالعادة، نقرت يويغاهاما هاتفها: «لا أعضاء جدد، لكن كثيرين ممّن انسحبوا عادوا».
«أوه؟» لم يكن الحدث دعايةً مثالية، فنجومه هاياما، زايموكوزا، يوكينوشيتا. ومع ذلك، المثير أنّ القدامى رجعوا.
أضافت يوكينوشيتا: «لم يعودوا جميعًا، لكن بعضهم رجع لأن الخرّيج توقف عن الحضور.»
أدّت يويغاهاما حركاتٍ مبالِغة: «غريب، مع أنه فاز، توقعت أن يعود كالمنتصر القاهر!»
ضحكت: «لا أظن.»
أغلقت يوكينوشيتا كتابها: «أعن قصدٍ خسرتَ؟»
«أردتُ الفوز فعلًا…» بل ظننتُ أني فزتُ.
تمتمت يويغاهاما بصدق جارح: «…هذا مُحزن.»
قالت يوكينوشيتا: «ظننتك تتنازل لتحقيق غايةٍ أكبر.»
هي تميل للتفكير المفرط، لكن يمكن فهم وجهة نظرها.
«لم يهمّني الفوز أو الخسارة؛ المهم أنّي لو فزتُ لزاد احتمال توقفه عن القدوم.»
لم تفهم يويغاهاما: «كيف؟»
قلت ببساطة: «أريته أنْ ‟لا مقعد لظهرك هنا!”»
تعجب حاجباها، لكن يوكينوشيتا ابتسمت: «…فهمت.» ثم عادت لقراءتها.
ازدادت فضول يويغاهاما تهزها: «هاه؟ ماذا يعني؟»
أسدلتُ كتابي غير قادر على التركيز. تساءلت: هل سيكون لي مكانٌ أودّ العودة إليه يومًا؟ وبقي السؤال عالقًا في ذهني.