عدت إلى غرفتي المؤقتة في أحد أروقة المقر.

فتحت الحقيبة الصغيرة التي لا تُغادر مكاني إلا معي.

داخلها كل ما أحتاجه للتمويه… وللبقاء حيًّا.

المهمة لم تكن واضحة.

“تأكيد إشاعات” فقط.

لكن عندما يذكر جين اسم جزيرة… ويصطحب ميانو وفودكا؟

فهذا يعني شيئًا أكبر من مجرد شك بسيط.

فتحت الخزانة، وسحبت ملابس مدنية:

بنطال رمادي بسيط، قميص بأزرار مفتوحة من الأعلى، نظارات شمسية سوداء.

كأنني… ذاهب في إجازة.

ارتديت كل شيء بعناية، دون استعجال.

ثم وقفت أمام المرآة.

لم أكن أبدو كعميل.

ولم أكن أبدو كطالب.

أنا شيء بين الاثنين…

شيء لا يظهر إلا عند الضرورة.

في الجيب الداخلي، وضعت السلاح الكاتم بحجمه المصغّر.

وفي الحزام، وضعت الشفرة القابلة للطيّ.

الهاتف… مُشفّر.

كل شيء يبدو طبيعيًا…

لكن داخلي يعرف تمامًا أن لا شيء طبيعي.

أغلقت الحقيبة، وخرجت من الغرفة.

نقطة التجمع ستكون بعد ساعات.

والجزيرة؟

قد تكون مجرد إشاعة… أو فخًا نُرسل إليه ونحن نبتسم.

وصلت إلى نقطة التجمع.

المكان… ساحة جانبية منسية بين المستودعات القديمة.

الوقت… قبل الفجر بلحظات، حيث المدينة نائمة والعالم يتنفس على مهل.

رأيت السيارتين السوداوين متوقفتين بهدوء.

في الأولى، جلس جين في المقعد الأمامي، معطفه الطويل مغلق بإحكام، ينظر إلى الأمام وكأنه يرى ما بعد الطريق.

فودكا كان بالخارج، يتكئ على غطاء السيارة، يدخن بنصف تركيز.

خطوتُ بهدوء.

لم أقل شيئًا، ولم أحتج.

جين التفت نحوي فور اقترابي، ونطق باسمي الرمزي، ببرود يحفر في الذاكرة:

“أبسينث، مع ميانو.”

اسم لا يُقال إلا في المهمات.

اسم لا يعرفه إلا من داخل الدائرة.

أومأت بصمت.

الرسالة وصلت.

في الجهة الأخرى، كانت شيهو ميانو تقترب.

شعرها مربوط، معطفها الرمادي يغطي جسدها النحيل، ونظرتها… ثابتة كعادتها.

فتحت باب السيارة الخلفية، جلست دون أن تلتفت.

جلست إلى جانبها، أغلقت الباب، شغّلت المحرك.

من المرآة، رأيت فودكا يصعد بجانب جين.

تحركت السيارتان معًا، بلا كلمة، بلا ضوء غير مصابيح الطريق.

كان صوت المحرك ناعمًا، والطريق مغطى بسكون ثقيل.

جلست شيهو إلى جانبي، صامتة كأنها تعرف أن كل كلمة محسوبة… كل نفس مسموع.

لكن الفضول بدأ يخنقني.

أدرت رأسي نحوها، وسألت بهدوء:

“ما هي الإشاعة؟”

لم تلتفت.

أجابت وهي تنظر إلى الأمام:

“الخلود.”

كلمة واحدة.

لكنها فجّرت كل شيء في رأسي.

بقيت صامتًا للحظة، شعرت بحرارة خفيفة خلف عينيّ.

ثم تمتمت بين أسناني، بصوت لا يسمعه إلا من بجانبي:

“اللعنة عليك يا جين…”

نظرت إلى الطريق أمامي، قبضة يدي على المقود شدّت بقوة.

“نذهب إلى جزيرة… بسبب إشاعة عن الخلود؟”

ضحكت بسخرية خافتة، ثم زمجرت:

“سأقتل ابن العاهرة الذي نشر هذه الإشاعة.”

لم تعلّق.

وربما كانت محقّة.

لأن في مثل هذه المهام، الغضب لا يُنقذ… لكنه يُبقيك يقظًا.

نظرت إليها مجددًا.

كانت ما تزال تنظر إلى الأمام، لكنني كنت أعلم…

هي مثلي، تعرف أن هذه الرحلة لن تنتهي بنفس الطريقة التي بدأت بها.

وصلنا إلى الميناء قبل شروق الشمس بلحظات.

الهواء مشبع برائحة الملح والحديد، والماء ساكن كأنه يحتجز أنفاسه.

أوقفت السيارة على حافة الرصيف.

نزلت، فتحت الباب الآخر، نزلت شيهو دون أن تنطق بكلمة.

لحظات بعدنا، وصلت السيارة الثانية.

فودكا نزل أولاً، عيناه تدوران بحذر كعادته.

رفعت نظري نحوه…

ثم، دون سبب، رفعت إصبعي الأوسط في وجهه .

لم أقل شيئًا.

لم أبتسم.

ولا حتى نظرت إليه طويلًا.

فقط رفعت إصبعي… ثم التفتّ للبحر.

فودكا تجمّد لثوانٍ، عبس، لكنه لم يرد.

ثم خرج جين من السيارة، يسير ببطء كما لو أن الوقت يمشي على خطاه.

وقف بالقرب، بصوته الرتيب المعتاد:

“القارب سيكون جاهزًا خلال خمس دقائق.”

أومأت، ثم تقدمت بضع خطوات نحو طرف الرصيف.

من هناك…

رأيت الظل الرمادي البعيد… جزيرة الحورية ، مغطاة بالضباب.

نظرت إلى شيهو.

كانت تنظر إلى الجزيرة بصمت.

وعلى وجهها… نفس الهدوء الخادع الذي يخفي أكثر مما يظهر.

أما فودكا؟

فما زال يتذمّر خلفي بصوت خافت،

لكنني كنت قد انتصرت بدون كلمة.

وصلنا إلى الجزيرة بعد رحلة بحرية قصيرة… لكنها كانت ثقيلة كأن البحر نفسه كان يختبرنا.

الميناء الصغير بالكاد يكفي لقاربين.

الضباب يحيط بالمكان، والأرض مبللة من رطوبة دائمة لا تنتهي.

عند المدخل، وقف رجل ببذلة رسمية ونظرة شاحبة، يحمل دفترًا بسيطًا يسجل فيه أسماء الزوار.

تقدّم جين أولاً، قال بصوته الخافت:

“كروساوا جين.”

دوّن الرجل الاسم دون أن يرفع عينيه.

ثم قالت شيهو :

“ميانو شين.”

تقدّمت أنا، قلت بلهجة ثابتة:

“كوربا رين.”

وأخيرًا، فودكا

“أوكا سابورو.”

هز الموظف رأسه، فتح البوابة الصغيرة، وأشار لنا بالدخول.

دخلنا…

الجزيرة كانت مزيجًا من الطبيعة المهجورة والبنية التحتية الغامضة.

ممرات حجرية، مبانٍ قديمة، أبراج مراقبة… لا شيء واضح.

لكن كل شيء يوحي بشيء يُخفى.

مع مرور الساعات، بدأنا نتنقل، نتفحص، نبحث.

لكن لا شيء كان هناك.

لا مختبرات، لا علامات، لا آثار… فقط جزيرة خالية .

ثم جاء التأكيد.

الإشاعة؟ كذبة.

مجرد طُعم، أو هذيان شخص أراد أن يُصدّق وهمه.

وقفتُ على صخرة مرتفعة، أنظر إلى البحر، أفكر…

“هل تطارد المنظمة أي بصيص أمل للخلود؟”

“هل هذا هو سبب وجود العقار؟”

“هل فكرة الهروب من الموت… هي التي تُملي علينا كل شيء؟”

نظرت خلفي… رأيت جين ينظر بصمت إلى الفراغ.

لكنني شعرت أنه يفكر بالضبط فيما أفكر فيه.

الخلود…

كان مجرد كذبة هذه المرة.

لكن ماذا لو…

لم تكن كذبة في المرة القادمة؟

عدنا إلى الميناء عند الغروب.

ركبت هي السيارة أولاً، جلست بصمت، تنظر إلى الأمام.

أما أنا، فدخلت من الجهة الأخرى… لكنني لم أقدها بعد.

التفت نحوها، ثم مددت يدي بثبات،

فتشت جيبها الداخلي وسحبت جهاز التنصّت.

كان صغيرًا، أسود اللون، بالكاد يُرى، لكن وزنه في يدي أثقل من حجمه.

قبضت عليه براحة كفّي، كتمت صوته بين أصابعي، ثم دفنته في علبة صغيرة بجانبي.

شغّلت الموسيقى، ورفعت الصوت قليلاً.

كانت الأغاني الخلفية وسيلة فعّالة لتمويه الفراغ بين الكلمات.

لاحظت نظراتها، كانت تنظر نحوي…

تُريد الحديث، تنتظر مني إشارة.

أشعلت سيجارة، نفثت أولى أنفاسي منها بهدوء، ثم قلت:

“اسألي.”

التفتت نحوي، تردّدت للحظة، ثم قالت بصوت منخفض:

“هل تدرس؟ ما اسم كوربا؟ و… كم عمرك؟”

ابتسمت بخفة، ابتسامة لم تكن ساخرة… لكنها لم تكن دافئة.

“عمري عشرون، أكبر منك بثلاث سنوات،”

سحبت نفَسًا من السيجارة،

“وأدرس في جامعة طوكيو، السنة الأخيرة.”

نظرت إلي، بدهشة خفيفة.

“أما كوربا… فهو اسم مستعار، لإخفاء اسمي الحقيقي.”

سكتت.

كأنها فهمت أنها لن تحصل على أكثر من ذلك.

أطفأت السيجارة في المنفضة، ثم نظرت أمامي:

“انتهى وقت الأسئلة.”

أخرجت جهاز التنصت من العلبة الصغيرة،

ووضعته في جيب معطفها دون أن أنظر إليها.

ثم أشعلت سيجارة أخرى.

الطريق كان هادئًا، لكن في داخل رأسي…

لم يكن شيء كذلك.

عدنا إلى المقر.

لم تنطق شيهو بكلمة، وأنا لم أطلب منها ذلك.

كلانا كان يعرف أن الرحلة لم تكن سوى فخ آخر… لكن ليس من نوع الفخاخ المعتادة.

فخ للمشاعر. فخ للذكريات. فخ للآمال التي يُراد أن تُدفن حيّة.

أوقفت السيارة، وترجلت أولًا.

هي لحقت بي بصمت، دون نظرة، دون حتى تنهيدة.

اختفت في ممرها.

أما أنا… فواصلت طريقي إلى غرفتي.

“غرفتي”…

كلمة أكبر من حقيقتها.

باب معدني، جدران رمادية، لا نوافذ، لا ضوء طبيعي، لا مرآة، لا شيء.

كل ما فيه يوحي بأن من يعيش هنا ليس إنسانًا… بل وظيفة.

دخلت، أغلقت الباب، رميت معطفي أرضًا،

ثم خلعت قميصي ورميته فوقه.

بقيت بالسروال فقط،

جلست على الأرض، ظهري إلى الجدار البارد،

ثم سحبت علبة السجائر.

أخرجت واحدة… أشعلتها.

أول نفس.

ثم الثاني.

“اللعنة عليك يا جين…”

بصقتها مع الدخان،

“نرسل أربعة عملاء إلى جزيرة مهجورة بسبب إشاعة عن الخلود؟”

ضحكت، ضحكة خالية من أي متعة.

“لو كنتُ أؤمن بالخرافات، لقلت إنك تبحث عن خلودك الشخصي يا ابن الكلب.”

نفثة أخرى.

كل دخان يحمل لعنة جديدة… على هذا المكان، وعلى الرجل الذي يحرّكني كقطعة شوجي

أسندت رأسي إلى الجدار، نظرت للسقف المتشقق، وقلت:

“جليس أطفال… خادم للإشاعات… مدخّن رسمي.”

ضحكت من نفسي.

ضحكة لا يسمعها أحد.

لكن ما جاء بعدها… لم يكن مضحكًا.

**

إيلينا.

وجهها. صوتها.

كل شيء عاد في ومضة واحدة.

لم تقل شيئًا. لم تبتسم.

لكنها كانت تنظر إليّ وكأنها تعرف أنني ما زلت أعيش…

وأنا لا أستحق ذلك.

همست:

“اللعنة… حتى في موتكم، تطاردونني.”

رفعت يدي بتثاقل…

ورفعت إصبعي الأوسط باتجاه السقف.

“إليكم جميعًا… جين… المنظمة… والماضي.”

أغمضت عيني ببطء.

والدخان يملأ رئتي…

كأنني أختنق ببطء، لكن طواعية.

ربما النوم لن يأتيني،

لكن الذاكرة… لا تحتاج إلى إذن لتدخل.

2025/05/23 · 75 مشاهدة · 1276 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025