كنت أجلس في الكافيتيريا الجامعية، أتناول غداءً لم أذقه، أستمع لأحاديث لا تعنيني. الوقت يمرّ ببطء… لكنني كنت أنتظره.
اهتز الهاتف في جيبي. أخرجته ونظرت إلى الشاشة:
“جين.”
ضغطت على زر الرد دون تردد، وقرّبت السماعة لأذني بصمت.
جاءني صوته، باردًا… خاليًا من أي نبرة بشرية:
“غدًا. الساعة الرابعة صباحًا.”
صمتٌ دام ثانية، ثم أكمل بنفس النغمة الثابتة:
“المكان المعتاد. المهمة ستُسلّم إليك هناك.”
أردت أن أسأله، أن أعرف طبيعة المهمة… لكنني لم أفعل.
جين لا يحب الأسئلة.
وهو لا يتصل إلا حين يكون الأمر حتميًّا.
“كن دقيقًا. ولا تأتِ بأسئلة.”
ثم أنهى المكالمة.
أبقيت الهاتف في يدي للحظات. نظرت إلى الشاشة السوداء بعد انتهاء المكالمة.
الساعة الرابعة صباحًا…
المكان المعتاد…
رفعت عيني إلى الطلبة من حولي.
عالمهم بسيط.
أمّا عالمي…اللعنه على جين فقط
لايوجد راحه
نهضت ببطء، أعدت الهاتف إلى جيبي، وغادرت الكافيتيريا دون أن أنظر خلفي.
⸻
كانت الساعة تقترب من الرابعة فجرًا.
ارتديت سترتي السوداء بإحكام، وضبطت ساعتي، ثم وضعت السلاح الكاتم في الحزام الجانبي.
لا حاجة للتنكر اليوم… ليس حين يكون اللقاء في “المكان المعتاد”.
قدت السيارة بهدوء خلال الأزقة الخالية، حتى وصلت إلى الزقاق الخلفي المؤدي إلى الواجهة المعروفة:
“صيدلية كوداي– فرع خاص.”
أوقفت السيارة، ترجّلت، وتقدّمت إلى الباب الجانبي. طرقت ثلاث طرقات بنغمة محددة.
انفتح الباب.
وظهر خلفه… جين .
بنفس ملامحه الجامدة، المعطف الأسود، اليد في الجيب، ونظرة لا تخبرك إن كان يراك حليفًا… أو عبئًا مؤقتًا.
“أدخل.”
مشيت خلفه بصمت، حتى وصلنا إلى غرفة صغيرة في الطابق السفلي. لا أوراق. لا أجهزة. لا أحد سوانا.
توقّف جين أمام الطاولة، ثم التفت إليّ:
“المهمة بسيطة. حراسة.”
نظر إليّ للحظة، وكأنّه يقيّم ردة فعلي…
ثم أكمل:
“ستعرف الموقع والتفاصيل عند اقتراب الوقت. لا أسئلة.”
لم أعلّق.
حين يقول جين إنها “بسيطة”، فهذا يعني شيئًا واحدًا:
أنها ليست كذلك.
استدار مغادرًا، تاركًا الغرفة بصمت.
أما أنا، فبقيت لثوانٍ أحدّق في الجدار…
أحاول أن أقرأ ما لم يُقال.
⸻
حين انتهى من كلماته القليلة، استدار جين مغادرًا الغرفة.
لكن على غير العادة، توقف عند الباب.
دون أن يلتفت، قال بصوته البارد:
“اتبعني.”
كلمتان فقط… كفيلتان بجعل أي شخص يعيد ترتيب حساباته.
لم أسأله، ولم أتردد.
خرجت خلفه بصمت.
سرنا في ممر جانبي داخل الصيدلية، حتى وصل إلى باب معدني رمادي اللون، بلا علامات، بلا لافتات.
أخرج بطاقة سوداء ممغنطة، مررها على الجهاز، فصدر صوت فتحٍ خافت… وانفتح الباب.
دخل أولاً، وأنا من خلفه.
المكان كان مختلفًا تمامًا عن واجهة الصيدلية البسيطة.
الإضاءة ناصعة، الجدران بيضاء، وبرودة خفيفة تسري في الهواء.
ممر طويل يؤدي إلى مصعد صغير.
ركبناه، ونزل بنا عدّة طوابق إلى الأسفل.
حين فُتح الباب…
كنا داخل مقر أبحاث طبي تابع للمنظمة .
أجهزة متطوّرة تصدر أزيزًا ناعمًا، خزائن معدنية ضخمة، غرف زجاجية تضم عينات ملوّنة، وشاشات تعرض بيانات مشفّرة.
تابعت السير خلفه دون أن أنطق، بينما كان موظفون يرتدون المعاطف البيضاء ينظرون نحونا للحظة… ثم يشيحون بنظرهم بسرعة.
دخل جين إلى غرفة جانبية، فيها طاولة وسطية، وعدة ملفات على الرف.
ثم التفت إليّ أخيرًا وقال:
“هذا ليس جزءًا من مهمتك… لكنك ستعرف قريبًا لماذا أتيت بك إلى هنا.”
ثم صمت…
وتركني في مواجهة علامات استفهام أكبر من أي إجابة.
⸻
دخلت خلف جين إلى الغرفة الجانبية.
كانت صغيرة، بإضاءة خافتة، وتحتوي على طاولة معدنية، بعض الكراسي، وخزانة ملفات.
لكن جين لم يتوقف.
فتح بابًا جانبيًا آخر داخل الغرفة…
وأشار إليّ بصمت كي أتبعه.
سرت خلفه حتى دخلنا ممرًا آخر، ثم وقف أمام باب زجاجي شفاف.
من خلف الزجاج…
رأيتها.
شيهو ميانو.
كانت تجلس على سرير طبي، تضع سماعات في أذنيها، تقرأ من جهاز لوحي.
معطفها الأبيض يغطي نصفها، ونظرتها كانت غارقة في شيء بعيد…
بعيد جدًا عن هذا المكان.
تحدث جين أخيرًا، بصوته الثابت:
“مهمتك… هي حراستها.”
نظرت إليه، لكنه لم يلتفت.
“على مدار الساعة. أي شخص يقترب منها دون تصريح مباشر… تتعامل معه.”
ثم التفت إليّ، نظراته حادة:
“بلا أسئلة، بلا تفسيرات. أنت الآن ظلّها.”
سكت للحظة، ثم أكمل بنبرة أكثر جمودًا:
“إن حصل لها شيء… أنت من سيدفع الثمن.”
ثم استدار وغادر.
تركتُ نظري يستقر على الزجاج…
وعلى شيهو، دون أن تلحظني.
مهمة حراسة؟
أم اختبار؟
أم فخّ؟
لا يهم.
حين يدخل اسم ميانو… الأمور دومًا تزداد تعقيدًا.
⸻
وقفتُ في الزاوية المقابلة لغرفة الزجاج، حيث لا تصل أنظار الكاميرات، ولا تلتفت الأعين.
في هذا الممر البارد، كنت وحدي… كعادتي.
سحبت سيجارة من العلبة المعدنية الصغيرة، أشعلتها بهدوء، وسحبت أول نفثة كأنني أبتلع الصمت.
شيهو ميانو ما تزال هناك.
جالسة على السرير، ساقاها مضمومتان، تمسك الجهاز اللوحي بنفس اليد التي اعتادت أن تصنع السمّ والدواء.
كانت ملامحها ثابتة… لكنها ليست باردة.
هي ليست كالبقية.
ليست قاتلة، وليست ضحية…
هي شيء آخر تمامًا.
رفعتُ السيجارة مرة أخرى، وتابعتُ المشهد من خلف الدخان الرمادي المتصاعد أمام وجهي.
كل حركة منها تُقرأ في ذهني.
كل رفّة جفن، كل تغيير في وضع الجلوس، كل انقطاع للنظر عن الشاشة.
أنا لا أحرسها فقط…
أنا أقرأها.
فجأة، نظرت نحو الزجاج.
عينها اصطدمت بمكاني… أو كادت.
لكنني كنت أسرع.
انحنيت قليلاً، وخففت ظهوري في الظل.
لا يجب أن تعلم أنني هنا… ليس بعد.
نفثة أخرى.
المكان هادئ… أكثر من اللازم.
وأنا؟
أنا لا أحب الهدوء الذي يسبق العاصفة.
⸻
سمعت صوت الباب يُفتح بخفة.
خطوات خفيفة تقترب… ثم توقفت بجانبي.
“أنت جليس الأطفال الجديد؟”
قالتها بنبرة لا تخلو من سخرية… ولا اهتمام.
لم أُجب.
سحبت نفثة طويلة من السيجارة، ونفخت الدخان ببطء دون أن ألتفت إليها.
تقدّمت خطوة، وأدارت وجهها تجاهي:
“حان وقت ذهابي لتناول الطعام.”
توقفت لثانية، ثم أكملت وكأنها تتحدث لموظف تحت الطلب:
“أريد الذهاب إلى المكان المعتاد.”
رفعتُ نظري إليها.
عينها رمادية، جامدة، لكنها ليست خالية.
في داخلها شيء… لم أقرر بعد إن كان ضعفًا أو جحيمًا مكبوتًا.
أخرجت الهاتف، اتصلت بجين.
ردّ بسرعة، وكأنه كان يتوقع المكالمة.
“ميانو تريد الخروج… لتناول الطعام. إلى المكان المعتاد.”
صمت على الطرف الآخر للحظة… ثم جاءني صوته الصارم كالمعتاد:
“اذهب معها.”
أغلقت الخط، نظرت إليها.
“هيا.”
قلت ذلك أخيرًا.
ابتسمت ابتسامة صغيرة، لا فرح فيها… فقط اعتراف بسيط بأنها فهمت أنني لست سوى ظل جديد لها.
تحركت بخطوات هادئة نحو المخرج، وأنا خلفها…
أول مرة نخرج من تحت الأرض سويًا.
⸻
قادني الصمت أكثر من الطريق.
هي إلى جانبي، ساكنة، لا تقول شيئًا، لكنها كانت تفكر كثيرًا.
أشعلت سيجارة، ونظرت للأمام.
لم أكن أرغب بالحديث، لكنني شعرت بعيونها على وجهي.
نظرتُ من طرف عيني.
تأمل السيارة، تمرّر أناملها فوق الخياطة الدقيقة على المقعد.
قالت، كأنها تتحدث لنفسها:
“تشبه سيارة جين…”
ثم صمتت وركبت دون أن تضيف شيئًا.
استمريت في القيادة.
بعد لحظات، سألت بصوت هادئ:
“ما اسمك؟”
لم أجب.
سحبت نفسًا من السيجارة، وأبقيت نظري على الطريق.
الاسم ليس للحديث.
لكن عندما نظرت إليّ، بنظرة فيها تحدٍ أكثر من فضول،
شعرت بشيء داخلي يقول:
أعطها الاسم… فقط الاسم.
فتحت درج التابلوه أمامها، وأخرجت دفترًا صغيرًا.
أخذتُه منها بهدوء، سحبت القلم.
كتبت:
“رينرو.”
ثم أعدت الدفتر إلى مكانه دون أن أنطق.
رأيت انعكاس وجهها في الزجاج.
تفاجأت.
لم تتوقع أنني سأكتب.
لكنها فهمت شيئًا آخر.
أن الأجهزة تراقب.
أن هناك كلامًا لا يُقال.
مدّت يدها مجددًا نحو الدفتر، كانت تريد أن تكتب شيئًا… أن تبدأ لعبتها الخاصة.
لكنني أمسكت يدها بهدوء… وثبّتها.
نظرت إليّ.
لم أتكلم.
نظراتي كانت كافية.
“لا تلعبي بالنار.”
سحبت يدها بهدوء… وعادت إلى الصمت.
وأنا…
أكملت التدخين، وعيني لا تفارق الطريق.
⸻
جلسنا في المطعم.
مكان هادئ، شبه فارغ في هذا الوقت المبكر من النهار، كما توقعت… “المكان المعتاد”.
هي جلست قبالتي في البداية، لكنني أشرت لها بهدوء، فانتقلت وجلست إلى جانبي، حيث يسهل إخفاء الكلمات.
أخرجت يدي ببطء، ثم دون إنذار…
أدخلتها في جيب معطفها الداخلي، وأخرجت جهازًا صغيرًا أسود اللون .
جهاز تنصّت بحجم ظفر الإصبع.
قبضت عليه بكفّي بكلتا يديّ، أخفيته تمامًا.
انحنيت نحوها قليلًا، وهمست:
“ماذا تردين أن تسألي… لكي ترمقيني بتلك النظرات؟”
نظرت إليّ.
نظرة فتاة خائفة…
لكن في عينيها شيء أعمق من الخوف.
“أختي… هل هي بخير؟”
قالتها بصوت أقرب إلى التنفس منها إلى الكلام.
أجبت فورًا، ودون أن أتردد:
“نعم.”
لكن حين نطقتُ بها… تسلل الشك إلى رأسي.
كيف تعرفني؟
كيف وثقت بهذا الجواب بسهولة؟
سألتها مباشرة، بصوت خافت:
“هل… تعرفينني؟”
أومأت برأسها.
قلت:
“كيف؟”
أجابت وهي تنظر للأمام، دون أن تلتفت:
“لم أكن أعرف شكلك… لكن اسمك؟”
ثم التفتت نحوي ببطء، نظراتها ثابتة:
“أختي تذكره كثيرًا… قالت لي أن أثق بك.”
توقفت لحظة.
ثم سألتني، بهدوء، كأنها تُنقّب في خلفيتي الأمنية:
“هل فتّشتك قبل أن تتكلّم؟”
أجبت بصراحة:
“نعم.”
صمتت لثوانٍ، ثم قالت:
“لا تقلق… لكن لا تكشف علاقتنا. بيني… وبينكم.”
نظرت إليها، وأعدت الجهاز الصغير إلى جيبها.
“لن يعرف أحد.”
قلت ذلك، وأكملت الغداء بصمت.
لكن بداخلي…
كل شيء بدأ بالتحرك.
⸻
عدت إلى موقعي المعتاد في الممر الزجاجي.
شيهو جلست في غرفتها، هادئة كعادتها، بينما أنا أراقب كأنني جزء من الجدار.
ثم…
وصل.
جين.
ظهر من طرف الممر، خطواته بطيئة لكن واثقة، ونظراته كالعادة… خالية من أي تفسير.
وقف أمامي وقال مباشرة:
“استعد.”
رفعت نظري نحوه.
لم يحتج أن يشرح.
لكنه هذه المرة… فعل.
“غدًا… نتحرك إلى جزيرة الحورية.”
توقف لثانية، ثم أكمل:
“أنا، فودكا، ميانو… وأنت.”
لم أسأل.
لكنه نظر في عيني وقال بصوت أكثر حدة:
“السبب تأكيد إشاعات.”
نطقها ببطء، كأن كل حرف فيها محسوب.
لم يشرح ما هي الإشاعات.
ولا أين مصدرها.
لكن حين تتحرك المنظمة بأربعة عناصر دفعة واحدة… فالإشاعة ليست مجرد إشاعة.
اكتفى بذلك، ثم استدار وغادر دون كلمة أخرى.
نظرت نحو غرفة شيهو.
“تأكيد إشاعات”؟