رنّ المنبّه.
فتحت عيني ببطء، نظرت إلى السقف الرمادي.
نفس المكان الكئيب.
لا جديد.
نهضت من على الأرض، خرجت من الغرفة المؤقتة، وتوجهت إلى الحمّام.
فتحت الباب، دخلت.
غسلت وجهي أولًا، نظرت في المرآة لثانيتين… ثم أدرت مقبض الدش.
أنتظرت حتى يسخن الماء،
ثم دخلت تحته.
“آخ…”
خرجت مني غريزيًا.
ستة أشهر في هذا الجحيم… وتخرّجي الشهر المقبل.
خرجت من الحمّام، جسدي لا يزال رطبًا، لففت المنشفة على خصري.
عدت إلى الغرفة.
الهاتف رنّ.
نظرت إلى الشاشة…
بلموت.
أجبت:
“نعم.”
قالت مباشرة:
“أبسينث، الليلة. في المطار الساعة الثامنة.”
سألتها بهدوء:
“هل أخبرتِ جين؟”
ردّت:
“نعم.”
سألتها دون أن أرفع صوتي:
“ما المهمة؟”
ردّت بثقة ووضوح:
“اغتيال أكاي… في نيويورك.”
صمتُّ للحظة.
ثم قلت:
“حسنًا.”
المكالمة انتهت.
نظرت إلى الأرض، ثم بدأت أرتدي ملابسي.
لا وقت للراحة.
الليلة… نُسافر للقتل.
⸻
نهضت من على السرير المؤقت.
جففت شعري بمنشفة سريعة، ثم رميتها على الكرسي.
لم آخذ أي سلاح.
ولا حتى سكين.
لبست ملابس خفيفة، بنطال داكن، قميص أزرق بسحاب، سترة خفيفة.
نظارات شمسية سوداء.
حذاء مريح.
وقفت أمام الباب، أخرجت الهاتف.
ضغطت على الرقم المسجّل باسم: “أكاي.”
رنّ مرة…
مرتين…
ثلاث…
أربع…
الخامسة…
ردّ.
صوتُه كان مترددًا، نائمًا، أو متفاجئًا.
لم أترك له مجالًا للكلام.
قلت:
“استعد، قادمون لقتلك.”
أغلقت الخط.
وضعت الهاتف في الجيب الداخلي.
سحبت حقيبة صغيرة تحتوي فقط على جواز السفر، بطاقة المنظمة، ومبلغ نقدي بسيط.
نظرت إلى نفسي في المرآة الصغيرة المعلقة بجانب الباب.
لم أر وجهًا… بل مهمة.
الملف تحرّك… والأمر انتهى.
خرجت من الغرفة.
الطريق إلى المطار يبدأ الآن.
⸻
خرجت من البوابة الخلفية للمقر، وصلت إلى الموقف الجانبي.
سيارة البورش السوداء كانت بانتظاري، كما هي دائمًا.
ركبت، أدرت المحرك.
صوته الهادئ المعتاد، لا يصرخ… لكنه يعرف الطريق.
أخرجت سيجارة من العلبة.
وضعتها في فمي.
أشعلتها بولاعة فضية.
أول نفثة.
انطلقت.
الطريق إلى المطار كان شبه خالٍ، الساعة قاربت السابعة مساءً.
الموسيقى كانت مغلقة، النوافذ مرفوعة،
وكل ما أسمعه… هو صوت المحرك، والدخان وهو يخرج من صدري.
أوقفت السيارة أمام مدخل كبار الشخصيات في المطار.
ترجلت منها بهدوء.
أطفأت السيجارة عند الباب، وسحقتها تحت الحذاء.
البورش بقيت تعمل، كأنها تعلم أني لن أتأخر.
دخلت دون أن ألتفت.
⸻
دخلت صالة كبار الشخصيات في المطار.
كل شيء هادئ، أنيق، ورائحة العطر الغالي تملأ المكان.
نظرت حولي مرة واحدة فقط… فوجدتها.
كانت تجلس بالقرب من النافذة، فستان أسود أنيق، شعر أشقر، نظارات شمسية واسعة تغطي نصف وجهها.
شارون فينيارد.
لكنني أعرف من تجلس هناك.
بلموت.
توجهت إليها مباشرة.
جلست على الكرسي المجاور دون أن أقول شيئًا.
قالت وهي تنظر للأمام:
“كوربا رين، الرحلة 417، نيويورك.
الدرجة الأولى.
المقعد بجانبك سيبقى فارغًا.”
أومأت.
مدّت يدها، سلّمتني مظروفًا صغيرًا.
“الهدف، موقعه، توقيت التنفيذ.”
أخذت المظروف، وضعته داخل الحقيبة دون أن أفتحه.
نظرت إلى ساعتها.
7:22.
قالت بنبرة هادئة:
“لدينا بعض الوقت قبل الصعود… تريد سيجارة؟”
أخرجت سيجارة بنفسي، أشعلتها.
سحبت أول نفثة، ثم قلت:
“دائمًا.”
ابتسمت، نظرت نحو المدرج خلف الزجاج.
وأنا… نظرت إلى الدخان.
الرحلة بدأت…
حتى قبل الإقلاع.
⸻
ركبت الطائرة، ربطت الحزام، جلست في مقعدي دون كلمة.
بلموت لحقت بي بعد لحظات، ما تزال بهيئة شارون فينيارد ، ملامحها مصقولة بدقة، خطواتها موزونة، جلست بجانبي وكأنها لم تغب ستة أشهر.
أخرجت ظرفًا صغيرًا من حقيبتها، وضعته في جيبي دون أن تشرح.
قالت بصوت منخفض:
“أول خطوة: نغتال سفّاح نيويورك… ونخفيه تمامًا.”
نظرت إليها، بانتظار البقية.
تابعت:
“بعد ذلك… سأتنكر بهيئته.
أدخل الساحة كأنه لا يزال حيًا…
اكاي سوف يتسهدفني
هنا تبدأ الخطه ”
نظرت أمامي، صامتًا.
ثم قالت بهدوء:
“أما أنت… فستكون القنّاص.
تجهّز وتتمركز، وفي حال لم تسر الأمور كما خُطط لها…
ستُطلق الرصاصة.”
أومأت برأسي.
“مفهوم.”
سألتها:
“لماذا التحرك ضد أكاي الآن؟”
ردّت دون أن تنظر إليّ:
“قالها بوضوح…
أكاي هو الرصاصة الفضية التي ستنهي المنظمة.”
ابتسمت.
عرفت من تقصد بقالها بوضوح
أغلقت عينيها وقالت:
“سأنام إلى أن نصل.”
أما أنا، فبقيت مستيقظًا.
⸻
هبطت الطائرة.
استيقظت بلموت فور اصطدام العجلات بالأرض.
فتحت عينيها، نظرت إليّ، لم تقل شيئًا.
خرجنا من المطار من بوابة خاصة.
لم نمر على أحد.
في الخارج، كانت سيارة ليموزين سوداء بانتظارنا.
فتح السائق الباب الخلفي.
دخلنا.
جلست على الجهة اليمنى، بلموت على اليسار.
بعد دقائق، انضمت إلينا امرأة ترتدي نظارات داكنة، سلمتني حقيبة سوداء كبيرة ، ثم جلست أمامي دون أن تنطق.
فتحت الحقيبة.
في الداخل:
– بندقية قنص مزودة بكاتم.
– مسدس كاتم.
– أدوات تثبيت، منظار رقمي، مخزن احتياطي.
أغلقت الحقيبة.
مدّت المرأة يدها، سلّمتني ملفًا رفيعًا .
فتحته.
صورة: رجل ياباني، قصير القامة، شعره فضي.
ملاحظات:
– جرائم قتل متسلسلة.
– التسلل والخداع.
– غير مستقر نفسيًا.
– آخر رصد: قبل ٣ أيام.
نظرت إلى الصورة، ثم سألت:
“أين ظهر آخر مرة؟”
ردّت المرأة بسرعة:
“أحد الأحياء الفقيرة، جنوب بروكلين.”
أغلقت الملف، نظرت إلى بلموت، ثم قلت:
“فلنذهب إلى هناك.”
أعطيت إشارة للسائق.
السيارة تحركت.
الهدف الأول… بانتظار نهايته.
⸻
خرجت من السيارة.
بلموت كانت ستتجه إلى موعدها التنكّري بهيئة شارون فينيارد .
قالت لي قبل أن أغادر:
“بمجرد أن تنتهي، أخبرني.”
أومأت، وأخذت المسدس الكاتم فقط ، وتركت الحقيبة داخل السيارة.
تركتها خلفي، ودخلت أحد أحياء بروكلين الفقيرة.
تجولت في الأزقة الضيقة، عيون الناس مليئة بالحذر، وكل شيء تفوح منه رائحة البؤس والسكوت القاتل.
بدأت أسأل:
“هل رأيتم رجلًا يابانيًا؟ قصير، شعره فضي؟”
الوجوه خالية، الردود متشابهة:
“لا نعرف أحدًا بهذه المواصفات.”
أكملت التجوال.
ثم رأيت رجلًا يبدو مريبًا ، ملابسه متّسخة، يتحرّك بطريقة مترددة، عيونه تراقب من دون سبب.
اقتربت منه بثبات.
أوقفته.
قلت بنبرة واثقة:
“أنا من الـFBI. نحقق في قضية خاصة.”
نظر إليّ بقلق، لكن لم يهرب.
أعطيته الثقة بالنبرة والحضور.
قلت له:
“أبحث عن مشتبه به في هذه المنطقة.”
رأيته يتوتر.
سألته فورًا:
“هل رأيت أحدًا غريبًا هنا مؤخرًا؟”
رد بسرعة:
“لا، لم أرَ أحدًا.”
نظرت إليه بعين ثابتة.
“غريب… لم تحاول أن تتذكر حتى.”
تغيّرت تعابير وجهه.
تابعت:
“رجل أشقر، أوروبي الجنسية.”
رأيت الراحة ترتسم على وجهه فجأة.
ابتسمت.
أخرجت المسدس الكاتم، ووجّهته إلى صدره.
قلت بهدوء:
“أين هو؟”
قال مرتجفًا:
“من؟”
أجبت:
“سفّاح نيويورك.”
خاف، تجمّد.
دفعته نحو أحد المباني المهجورة.
دخلت معه تحت التهديد.
هناك، أخبرني بمكان سكن السفّاح.
مبنى قديم في الزاوية الشمالية للحارة، الطابق الثالث.
قلت له:
“أحسنت.”
ثم أطلقت عليه رصاصة واحدة… في الرأس.
سقط فورًا.
لم ألتفت.
أخرجت الهاتف، اتصلت برقم بلموت .
ردّت.
قلت:
“تم تحديد الموقع. لدي جثة بحاجة للإخفاء. أرسلي الفريق.”
“تم.”
أغلقت الخط.
أعدت المسدس إلى مكانه، وواصلت سيري.
الخطوة التالية:
زيارة مقر سكن سفاح نيويورك.
⸻
وقفت أمام المبنى القديم.
ثلاثة طوابق، النوافذ مكسورة، الجدران ملطخة، والباب الأمامي بالكاد يُغلق.
لا كاميرات، لا حراس، لا شيء يراقب…
إلا أنا.
دخلت.
الصمت يملأ المكان.
خطواتي كانت خفيفة، أعصابي مشدودة، والمسدس الكاتم في يدي اليمنى.
صعدت الدرج.
وصلت إلى الطابق الثالث.
وقفت عند الباب الأخير على اليمين.
أخرجت مرآة صغيرة، مرّرتها أسفل الباب.
حركة.
شخص يتحرّك داخل الغرفة.
تنفّست.
لم أطرق الباب.
فتحت المقبض ببطء…
الباب لم يكن مقفلاً.
دخلت.
الغرفة شبه مظلمة.
رأيته.
رجل قصير القامة، شعره فضي، يرتدي قميصًا داخليًا ممزقًا، جالس على الأرض بجوار نافذة مغطاة بقماش رمادي.
في يده شفرة.
لم يرني بعد.
تقدّمت خطوتين.
وجّهت السلاح إلى رأسه، ثم قلت بهدوء:
“انتهت قصتك.”
استدار، عينيه اتسعتا.
ضغطت الزناد.
رصاصة واحدة.
في منتصف الجبهة.
سقط مباشرة، الشفرة انزلقت من يده، وضربت الأرض بصوت خافت.
نظرت إليه للحظة، ثم مسحت بصري عن المكان.
أخرجت الهاتف.
اتصلت.
بلموت ردّت فورًا.
قلت:
“المهمة انتهت. الهدف تم تصفيته.”
ردّت:
“نسخة جديدة من الجثة… جاهزة.”
أغلقت الخط.
خرجت من الغرفة، نزلت الدرج بنفس الهدوء.
المرحلة التالية ستبدأ…
وسفّاح نيويورك… سيظهر من جديد.
⸻
وصلت الليموزين عند مدخل الفندق.
الساعة تجاوزت منتصف الليل.
الشارع هادئ، والمهمة انتهت.
دخلت عبر المدخل الخلفي، صعدت إلى الطابق المخصص، استخدمت البطاقة، فتحت الباب.
ألقيت المسدس على الطاولة، خلعته بهدوء.
فككت أزرار القميص، دخلت الحمّام.
شغّلت الماء، انتظرت حتى أصبح دافئًا.
دخلت تحت الدش.
الماء انهمر على جسدي المتعب.
أغمضت عيني.
لم أفكر بشيء.
انتهيت.
أغلقت الماء، أخذت منشفة، لففتها حول خصري، وخرجت من الحمّام، جسدي لا يزال يقطر.
وقبل أن ألتقط القميص عن الكرسي…
فُتح الباب.
بلموت دخلت.
نظرت إليها بصمت، ثم قلت:
“أما زلتِ لم تتعلمي طرق الباب؟”
ابتسمت ابتسامة خفيفة، نظرت إليّ دون أن تخجل،
نظرتها نزلت ببطء على جسدي،
ثم رفعت عينيها نحوي دون تعليق.
قلت وأنا ألتقط القميص:
“عمري 21.”
“ستكون فضيحة كبيرة لو شوهدتِ معك… النجمة الشهيرة، مع شاب في العشرينات.”
ضحكت، ثم اقتربت قليلاً.
“غدًا…”
قالت وهي تعدّل خصلات شعرها الأشقر.
“ستأتي معي. ستحضر مسرحية معي كحارس شخصي… أو مرافق، كما يراه الناس.”
رفعت حاجبًا.
“مسرحية؟”
أومأت بصمت.
هي التفتت، وخرجت من الغرفة كما دخلت…
دون أن تطرق الباب.
⸻