خرجت من المسرح بخطى ثابتة.

الشارع أصبح شبه خالٍ، وأضواء المدينة بدأت تخفت ببطء.

الليموزين السوداء كانت بانتظارنا قرب الرصيف.

فتحت الباب، صعدت أولاً، ثم لحقت بي بلموت ، لكن لم تكن على هيئة “شارون فينيارد” هذه المرة…

بل كانت متنكّرة بالكامل بهيئة سفّاح نيويورك .

نفس الطول، نفس الشعر الفضي، نفس البنية الدقيقة المخادعة…

التقمص الكامل.

لم تقل شيئًا، وأنا لم أعلّق.

فتحت الحقيبة السوداء الموضوعة أمامي.

بداخلها:

– بندقية القنص مزودة بكاتم.

– منظار رقمي.

– ذراع تثبيت.

– ذخيرة محددة.

تحقّقت من كل قطعة بهدوء ودقة.

أغلقت الحقيبة، نظرت إليها وقلت:

“سأكون فوق مبنى الكنيسة.

إذا حدث أي شيء… جذّبيه باتجاهي.”

نظرت إليّ بعيني السفّاح، لكن صوتها بقي صوتها:

“حسنًا.”

أومأت.

نزلت من السيارة.

كان الشارع مبللًا، والمطر يتساقط بخفة، مصحوبًا برياح باردة تلفح وجهي.

تقدّمت دون استعجال، خطواتي تنغمس في البرك الصغيرة، وصوت حذائي يتردد فوق الأرصفة الخاوية.

نظرت إلى السماء الرمادية.

قلت بهدوء:

“يوم سيّئ للصيد.”

أكملت السير.

ظهرت الكنيسة القديمة في نهاية الشارع، شامخة بصمتٍ مظلم، جدرانها السوداء تبدو أثقل من المطر ذاته.

اقتربت.

مددت يدي نحو الباب الخشبي الكبير…

كان مقفلاً.

لم أتردد.

سحبت المسدس الكاتم، وجهته إلى القفل…

أطلقت رصاصة واحدة.

طَق.

القفل انكسر.

دفعت الباب ببطء، أصدر أنينًا ثقيلًا وهو ينفتح.

الداخل مظلم، ساكن.

دخلت دون صوت، خطواتي تتردد داخل الجدران الحجرية.

الصعود إلى الأعلى كان عبر سلّم جانبي قديم، رطب من الرطوبة والغبار.

صعدت.

درجات، ثم درجات، حتى وصلت إلى باب خشبي صغير يفضي إلى سطح الكنيسة.

وضعت يدي عليه.

فتحته.

وقفْت هناك…

فوق المدينة.

الرياح تعصف بمعطفي، والمطر يضرب الحجر من حولي.

لكن منظاري…

كان جاهزًا.

ركعتُ بهدوء على سطح الكنيسة، والريح تعصف من حولي.

فتحت الحقيبة.

سحبت بندقية القنص قطعةً قطعة.

ركبت الجسد أولاً، ثبّتت القاعدة، شددت المسامير،

ركبت الكاتم بإحكام، ثم ثبتُّ المنظار بدقة في موقعه.

أدخلت إصبعي في فمي، بللته بلعابي، ثم رفعته.

وقفت للحظة، راقبت الهواء.

الرياح شمالية غربية، بزاوية مائلة،

خفيفة، لكن كافية لتحرّف الرصاصة إذا لم أعدّلها.

عدت إلى وضعي، أنزلت علبة الذخيرة، حمّلت الطلقة الأولى.

انزلقت في مكانها بسلاسة.

أمسكت السماعة الصغيرة.

ثبتُّها في أذني، وقلت بصوت منخفض، لكن حاد:

“بلموت… أنا جاهز.”

صمتٌ في الخط لثانية.

ثم ردّ صوتها:

“مفهوم.”

أصبحت السماء خلفي…

والعدسة أمامي…

والهدف لم يظهر بعد.

لكن إصبعي… كان مستعدًا للضغط.

مرّت دقائق، وأنا في مكاني، ثابت كظلٍ فوق سطح الكنيسة.

المنظار أمام عيني، والسماعة في أذني.

لا حركة… لا هدف واضح.

المطر بدأ يزداد.

الرياح تحاول أن تعبث بثبات البندقية… لكن قبضتي لا تترك لها فرصة.

وفجأة…

دوّى صوت إطلاق نار.

قصير، حاد، قريب.

ثانية صمت.

ثم صوت خافت في السماعة، مختلط بنَفَس متقطع:

“بلموت، ماذا حصل؟”

صوتها جاء، أضعف من المعتاد:

“أُصِبت…”

شهقت خفيفة، تلتها تنهيدة ضغط.

“انه يلاحقني … سأجذبه نحوك لكن سيكون هنالك ضيوف غيره.”

شعرت بجمود مفاجئ في صدري.

عدّلت زاوية المنظار، مسحت الشارع بنظري، بحثًا عن أي حركة غير طبيعية.

العدسة ما زالت تبحث…

لكن إصبعي بدأ يقترب من الزناد.

قلت بهدوء في السماعة:

“فهمت. اجذبيهم ، وأنا سأُنهي الأمر.”

من خلف عدسة المنظار، ظهرت أخيرًا.

بلموت ، بهيئة السفّاح، تترنح قليلًا وهي تعبر الزاوية، تمسك بكتفها المصابة.

لكن ما لفت نظري لم يكن هي فقط.

ثلاثة عناصر من الـFBI خرجوا خلفها فجأة، مدججين بالسلاح، يتحرّكون بدقة.

لم أنتظر.

طلقة أولى.

اخترقت رأس الأول.

سقط مباشرة دون صوت.

الثاني بدأ يلتفت…

طلقة ثانية.

أصابته في الظهر، خرّ على ركبتيه ثم سقط.

الثالث فرّ فورًا، اختفى خلف الجدار.

أعدت النظر عبر المنظار بسرعة.

أمسكت السماعة:

“أكاي ليس بينهم.”

جاء صوت بلموت ضعيفًا، متقطعًا من شدّة الألم:

“اللعنة… اكتشف وجودك.”

نظرت حولي بسرعة، قد يبدؤون بتمشيط المكان قريبًا.

قلت بحزم:

“الآن، اختبئي في أحد المباني المهجورة قربك… لا تعودي لنقطة الالتقاء.”

صمت لحظة.

ثم ردّت:

“حسنا"

أبعدت عيني عن المنظار، سحبت نفسًا عميقًا.

العملية انكشفت.

الانسحاب بدأ.

سمعت أصواتًا خلف الكنيسة.

خطوات سريعة… أصوات تواصل عبر الأجهزة.

الـFBI قادمون من الجهة الخلفية.

تحرّكت فورًا.

أغلقت باب سطح الكنيسة، و أدخلت ماسورة بندقية القنص بين المقبض والإطار.

تحوّلت إلى حاجز مؤقت.

ركضت.

نظرت إلى المبنى المجاور… المسافة ليست سهلة، لكن لا وقت للتردد.

قفزت.

قدماي لامستا الحافة الإسمنتية للمبنى الآخر، تدحرجت على الأرض الرطبة، ثم نهضت.

واصلت القفز، مبنى بعد مبنى، فوق الأسطح.

سرعتي كانت كل ما أملكه الآن.

وضعت يدي على السماعة.

“بلموت، أين أنتِ؟”

“انتظر…”

جاء صوتها واهنًا، مكسور النفس.

“كُشفت…”

نظرت إلى الجانب الآخر، قرب أحد المباني القديمة، حيث سلّم خارجي معدني.

رأيتها.

جسدها مستند إلى الدرابزين، نصفه ساقط، تنزف من كتفها.

كانت ران في يد شينيتشي ، يحملها ويبتعد، ظهره لنا.

انتظرت بصمت حتى خرجا من نطاق الرؤية.

ثم رأيت بلموت تنهار ببطء.

سقطت.

قفزت من على الحافة، نزلت عبر مواسير التصريف، ثم عبرت الزقاق الضيق.

ذهبت إليها.

كانت فاقدة الوعي… لكن ما زالت تتنفس.

حملتها.

جسدها كان خفيفًا، لكن النزيف جعل كل خطوة أثقل.

تسللت عبر الزقاق المظلم، حتى وجدت زاوية بين مبنيين مهجورين.

وضعت بلموت هناك، مستندة إلى الحائط، وغطّيتها بسترة متهالكة.

ثم سمعت الصوت.

خطوة.

خلفي.

تحرّكت بسرعة، سحبت المسدس، استدرت في لحظة،

وصوّبت بدقة نحو الداخل.

وفي اللحظة نفسها…

وجدت مسدسًا موجهًا إلى رأسي.

توقّفت.

لم أتحرّك.

هو.

عرفت النظرة، الطريقة التي يثبّت بها السلاح، الصمت الحاد في عينيه.

نطقت باسمه، ببرود محسوب:

“أكاي.”

ردّ بصوت هادئ، ثابت، وهو لا يُخفض السلاح:

“أبسينث.”

نظرت في عينيه، وقلت:

“مهمة الـFBI انتهت.”

لم يتراجع.

فاضطررت إلى رفع نبرة التهديد:

“سأقتل كل عميل تابع لكم،

الم تجعلهم يتراجعون؟”

نظراتي لم تهتز.

هو يعرفني.

ثلاث سنوات من الشراكة غير المعلنة تكفي.

يعرف… أنني لا أهدد عبثًا.

صمت لحظة، ثم أومأ برأسه بهدوء.

واختفى.

كما جاء… اختفى.

عدت إلى بلموت.

لم أعد أنظر خلفي.

الممر بات فارغًا.

لكنني كنت أعرف… أن العيون ما زالت علينا.

حملتها من جديد.

كانت أنفاسها متقطعة، لكن منتظمة.

بينما أتنقل بها بين الأزقة، شعرت بها تتحرك قليلاً.

نظرت إلى ساقها…

رصاصة ثانية.

في الفخذ.

الدم تسرب بهدوء، لكنها لم تصرخ.

ثم سمعتها تتحدث بصوت خافت، متعب، لكن فيه نبرة ساخرة:

“لم أكن أعلم أن أكاي يخاف من أحد.”

نظرت إليها، حاجبي مرفوع.

“كنتِ مستيقظة إذًا.”

أومأت برأسها.

ابتسمت بسخرية.

“جميل.

حسنًا… حان وقت إنقاذك، أيتها النجمة العالمية.”

شدّدت قبضتي تحت كتفها وواصلت السير.

الغرفة نصف مظلمة، وستائر الفندق تتحرك بخفة مع الريح الباردة.

كنت واقفًا عند النافذة، عاريًا، السيجارة مشتعلة بين أصابعي، والدخان يرتفع نحو السقف كأفكار لا اسم لها.

بلموت دخلت… كالعادة، دون طرق.

لم ألتفت.

قلت ببساطة:

“يبدو أن المنظمة فشلت حتى في تعليم قواعد الباب.”

جلست بهدوء على حافة الأريكة، تتأمل الجراح التي لم تُغلق بعد.

قدّمتُ لها السيجارة.

أخذتها دون كلمة.

قلت وأنا أنظر للمدينة تحت قدمي:

“تخيلتُ أنني سأقضي عطلة، ولو لمرة، في نيويورك…

لكن يبدو أن القنص دائمًا يسبق الراحة.”

ابتسمت بلموت.

قالت، وكأنها تفكر بصوت مرتفع:

“أبسينث… الاسم لم يُمنح لك، بل اخترته.”

نظرت إليها، لم أجب.

“تعني السمّ الأخضر، مشروب المسحورين…”

قالت ذلك، ثم حدقت فيّ، نظرتها أصبحت أكثر حدة:

“لكن ليس هذا السبب الحقيقي، أليس كذلك؟”

صمت.

“أنت اخترت الاسم لأنه يعني في بعض الثقافات:

الطارد… الرافض… قاتل المقدّس.”

سحبت من سيجارتها، وأكملت:

“أنت… من يرفض وجود إله فوقه.

لا قانون، لا ولاء، لا خضوع.

حتى نحن… حتى الزعيم… تعرف تمامًا أنك تسير بجوارنا، لا خلفنا.”

رفعت حاجبي، نصف ابتسامة ظهرت على وجهي:

“وأنتِ… تعرفين دائمًا أكثر مما يجب.”

قالت وهي تنظر للدخان المتصاعد:

“لهذا اخترتك… ولهذا أخاف منك أحيانًا.”

سحبت نفسًا عميقًا من السيجارة، وقلت:

“الخوف ليس منّي…

بل من العالم الذي سأُعيد ترتيبه إن خرجت عن طوعي.”

ضحكت بخفة:

“وأنا… أحب من لا يملكون طوعًا.”

كان السكون سائدًا، لا يُكسره إلا احتراق طرف السيجارة بين أصابعي، وصوت أنفاسها المتعبة من جهة الأريكة.

نظرت إليها للحظة، ثم قلت بنبرة هادئة، وكأني ألقي جملة عادية:

“حديثك مع يوكيكو… عن ابنتك المتنكرة…

لم يكن سوى انعكاس.”

رفعت رأسها ببطء، حاجبها الأيسر ارتفع قليلاً… لم تنطق.

“لم تكن تتحدثين عن كريس…

كنت تتحدثين عن نفسك.”

تغيّرت جلستها قليلاً، لكن ملامحها لم تنهار.

“من زارك عند القبر…

لم يكن شبحًا، ولا تنكرًا عبثيًا.

كان صورة من الماضي… صورة تعرفينها جيدًا.”

سحبت نفسًا من السيجارة، نظرت إلى الدخان يتصاعد، ثم تابعت:

“بحثتُ سابقًا

المعلومات عنك، لكن أنماط التسجيل تقود إلى ثلاث مناطق فقط.”

نظرت إليها ببطء، عينيّ ثابتتان على عينيها.

“شيبا.”

سكون.

“ساغا.”

لمعة خاطفة في بؤبؤها، لكنها أخفتها بسرعة.

“أوكيناوا.”

هذه المرة، لم ترمش.

لكن أنفاسها تباطأت.

سكتُ.

ثم أضفت بنبرة شبه ساخرة:

“ردة فعلك… كانت كافية.”

لم ترد.

لكن في داخل عينيها، كانت هناك لحظة انهيار صامت… اعتراف بلا اعتراف.

رفعت السيجارة من جديد، ونظرت إلى الرماد المتجمع في طرفها.

هي التفتت للنافذة…

لكنها لم تتكلّم بعدها.

التحليل انتهى.

والصمت… كان أقوى من أي اعتراف.

2025/05/24 · 67 مشاهدة · 1375 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025