كانت السماء رمادية فوق طوكيو، والمطر يهدد بالنزول دون وعد.
وقفت في شرفة الشقة المؤقتة، الهاتف في يدي، الرقم محفوظ… لا أستخدمه إلا عند الحاجة.
اتصلت.
رنّ ثلاث مرات.
أجابت بصوتها المعتاد، الناعم واليقظ:
“أبسينث.”
قلت بهدوء، دون تمهيد:
“أريد التعيين كمدرّس في تيتان الثانوية.”
صمت على الخط لثانية واحدة فقط.
ثم ردّت بصوت منخفض، يحمل ابتسامة لم أرها:
“اعتبره انجز"
لم تسأل “لماذا”، ولم تطلب تفسيرًا.
كما توقعت.
لكنها أضافت، بنبرة تحمل طابعها الخاص:
“أنت مدين لي بعشاء فاخر.”
ابتسمت، نظرت إلى المدينة تحت قدمي.
“بدون سكاكين، هذه المرة.”
أنهت المكالمة.
أغلقت الهاتف.
المرحلة التالية بدأت.
الفصول تنتظرني… لا المقابر.
⸻
رنّ المنبّه.
الصوت كان حادًا، متكررًا، مزعجًا أكثر مما يحتمل الصباح.
أمسكته دون أن أنظر، ورميته نحو الجدار.
ارتطم، سكت.
نهضت.
الجدران هادئة، الضوء خافت، والهواء يحمل برودة خفيفة.
دخلت الحمّام، شغّلت الماء،
غسلت وجهي أولاً.
الماء البارد شقّ طريقه على ملامحي، أيقظ ما تبقّى من جسدي.
فتحت الدش.
انتظرت.
يد تحت الماء،
“لا يزال باردًا…”
مرت لحظة… ثم أخرى.
حين بدأ بالبخار، دخلت.
الماء الحار انسكب على كتفي.
لم أتحرّك.
سكون، تنفّس، وتركيز.
انتهيت. خرجت.
جففت جسدي بسرعة، ثم ارتديت ملابسي.
قميص أبيض، بنطال رمادي، سترة بسيطة، حذاء نظيف.
مظهر مدرّس لا يلفت الانتباه… وهو بالضبط ما أريده.
وقفت أمام المرآة، أغلقت الزرّ الأخير في القميص.
سحبت علبة السجائر، أشعلت واحدة.
نظرت إلى النافذة… السماء لا تزال رمادية.
“أول يوم.”
نفثت الدخان ببطء.
⸻
خرجت من المبنى دون استعجال.
لم أقد السيارة هذا الصباح…
فضلتُ أن أمشي.
الشارع كان هادئًا، والهواء منعشًا.
خطواتي منتظمة، وحقيبتي الجلدية تتمايل بخفة مع حركتي.
لم يكن في رأسي شيء…
سوى فكرة واحدة:
“مسرح جديد… وجمهور لا يعرف مَن الممثل الحقيقي.”
اقتربت من بوابة مدرسة تيتان الثانوية.
المبنى بدا تقليديًا من الخارج… لكنه يخفي كثيرًا داخله.
دخلت عبر البوابة الرئيسية.
الطلاب يتنقلون في الساحة.
أصوات حديث، ضحك، خطوات سريعة، وحقائب مدرسية متهالكة.
طالبات يسرن جماعات، طلاب يركضون، البعض يتثاءب.
لا أحد انتبه لي.
وهذا ما أفضّله.
نظرت حولي.
اللافتات، الأشجار، مدخل الإدارة، الملعب الترابي في الزاوية.
كل شيء مألوف…
لكن اليوم، أنا جزء منه.
أدخلت يدي في جيب سترتي، نظرت للسماء لثوانٍ،
ثم تابعت سيري… بثقة باردة.
⸻
خرجت من مكتب الإدارة بعد توقيع الأوراق، وتسلم الجدول.
خطواتي كانت ثابتة، لا سريعة ولا بطيئة.
السكرتيرة أرشدتني إلى الصف 2-B .
الممر كان صاخبًا، طلاب يلوّحون، معلمين يمرّون بملفات،
لكنني كنت أعبر كظل لا يعكس صوتًا.
وقفت أمام الباب، وضعت يدي على المقبض،
ثم فتحته بهدوء.
دَخَلت.
الصف امتلأ بالضجيج.
رؤوس تتحرك، أوراق تتطاير، نقاشات جانبية،
لكن لحظة دخولي…
الصمت سقط على المكان.
رأيتهم.
ران نظرت إليّ، ثم ابتسمت بخفة…
شينيتشي رفع رأسه، ثم ضيّق عينيه كأنه تلقى تحديًا غير معلن.
سونوكو شهقت وهمست:
“إيه؟! لا مستحيل… المدرّس الجديد
خطوت بهدوء نحو المنصة،
وضعت الحقيبة جانبًا، ثم التفت إلى الصف.
نظرت إلى الوجوه، لم أبتسم، ولم أعبس.
قلت بنبرة مستقرة:
“صباح الخير.
اسمي كوربا رين…
وسأكون معلّمكم الجديد لمادة اللغة اليابانية.”
تجولت نظرتي في المكان،
رأيت الارتباك في أعين البعض، واللامبالاة في آخرين…
لكن هناك دائمًا ثلاثة وجوه تراقب بشكل مختلف.
ران… سعادة حذرة.
سونوكو… اندهاش غير مصدّق.
شينيتشي… إحباط صامت، وتحفّظ بدأ يتصلّب.
ابتسمت ابتسامة بالكاد تُرى.
المسرح جاهز.
والفصل… بدأ.
⸻
لم تمضِ سوى لحظات على وقوفي أمام السبورة، حتى رفعت إحدى الطالبات يدها بتردّد، وقالت:
“أستاذ… هل لي أن أسأل عن عمرك؟”
نظرت إليها نظرة هادئة، ثم أجبت بنبرة واثقة:
“عمري واحد وعشرون عامًا.”
ساد الهمس في أرجاء الفصل، وتبدّلت نظرات الدهشة بين الطلاب.
قالت فتاة في الصف الأمامي بصوت شبه مرتفع:
“لكن… هذا يعني أنك قريب من أعمارنا!”
أومأت برأسي، ثم قلت:
“نعم، لست بعيدًا عنكم في السن…
ولكن هذا لا يعني أن بيننا تشابه في الدور أو المكانة.”
تقدّمت خطوة نحو الطاولة، وضعت دفتر الحصص بهدوء، ثم رفعت نظري إلى الطلاب:
“أنا كوربا رين، معلّم اللغة الإنجليزية في هذا الفصل.”
“وقبل أن نبدأ بأي درس، أودّ أن أسمع من كل طالب: اسمه، عمره، وهوايته.”
“لنبدأ من الصف الأول، الجهة اليمنى.”
صمتّ، ونظرت إليهم بعين ثابتة.
في تلك اللحظة
كنت أراقب.
⸻
كان الطلاب يتعاقبون على التعريف بأنفسهم،
الأسماء تتالى، والأصوات تتشابه،
لكنني لم أكن أدوّن شيئًا،
بل كنت أكتفي بالمراقبة… قراءة الصمت بين الكلمات.
ثم جاء الدور على الفتاة ذات النظرة اللطيفة والوقفة الواثقة.
“ران موري.”
قالتها بصوت واضح.
“العمر: 17 عامًا.”
“الهواية: الكاراتيه… وأحيانًا القراءة.”
كانت صادقة…
وفي عينيها دفء خفي.
أومأت برأسي بصمت، ثم انتقلت بنظري إلى الفتاة التي بجانبها، التي بدت وكأنها لا تنتظر الإذن للكلام.
“سونكو سوزوكي!”
قالتها بابتسامة عريضة.
“العمر: 17،
الهواية؟ التسوّق… وتحليل الشخصيات.”
ثم نظرت إليّ بنظرة فضول طفولي، وكأنها تحاول استفزاز ردّ فعل.
اكتفيت بنظرة حيادية.
ثم جاء دوره.
الجالس بهدوء في الصف الخلفي،
عيناه نصف مغمضتين، وصوته منخفض… لكن دقيق.
“شينيتشي كودو.”
“العمر: 17.”
“الهواية: كرة القدم… والتحقيق في القضايا.”
قالها دون ابتسامة، دون مبالغة،
لكن في صوته نوع من الثقة الجاهزة للمواجهة.
نظرت إليه للحظة أطول.
ثم قلت بهدوء:
“شكرًا… لنبدأ الدرس.”
⸻
وقفتُ أمام السبورة، والهدوء يسود الفصل.
نظرت إلى الوجوه المتباينة:
الحذر في عيني ران، الحماس المشوب بالسخرية في ملامح سونوكو، والهدوء الحذر في نظرة شينيتشي.
وضعت يدي خلف ظهري وقلت بنبرة هادئة:
“اللغات… هي الحياة.”
“ومن دونها… لا نستطيع أن نتواصل، لا مع الآخرين… ولا مع ذواتنا.”
سرت همسة خافتة بين الطلاب، كأن العبارة لم تكن مما اعتادوا سماعه من معلم.
تابعت:
“اللغة الإنجليزية… ليست مجرد مادة دراسية.
هي المفتاح الأول لفهم هذا العالم، وأوسع اللغات انتشارًا على سطح الأرض.”
“وما سأفعله هنا، لن يكون تعليم قواعد مملة…
بل تدريبًا على التعبير… والفهم… والتفكير.”
ثم أمسكت الطبشورة، وكتبت على السبورة ببطء:
“Who are you when no one is watching?”
استدرت إلى الصف، ونظرت إليهم نظرة ثابتة:
“هذا هو سؤالي الأول… وأريد إجابتكم عليه باللغة الإنجليزية.”
“من أنت… عندما لا يراك أحد؟”
“لن أقيّم الإجابات… بل صدقها.”
سكتّ للحظة، ثم قلت:
“ابدؤوا.”
عدت إلى طاولتي، جلست، وأخرجت قلماً بين أصابعي،
عيناي تراقبانهم جميعًا…
لكن واحدة منها، كانت على شينيتشي.
⸻
سكتَّ الجميع، يتأملون السؤال المكتوب على السبورة.
“Who are you when no one is watching?”
بعضهم بدأ يدوّن أفكارًا مترددة، وبعضهم ينظر إلى الأرض كمن ينتظر أن يتجاوز الدور.
أما شينيتشي… فكان يحدّق في العبارة.
لم يكتب. لم يعلّق.
نظرت إليه.
ثم نطقت، دون رفع صوتك، لكن بنبرة لا تسمح بالتجاهل:
“كودو شينيتشي…”
رفع رأسه إليك فورًا، نظرة ثابتة.
“أجبني…”
“من أنت… عندما لا يراك أحد؟”
لحظة صمت.
ثم قال، بالإنجليزية، بصوت واثق لا يخلو من التحدي:
“I’m a seeker of truth… even when the truth is ugly.”
“أنا
…
.
ساد صمت في الصف.
سونوكو تمتمت:
“درامي كعادته…”
ران نظرت إليه بإعجاب لم تُخفِه.
أما أنت…
فقد بقيت صامتًا للحظة، ثم قلت بنبرة خفيفة:
“إجابة ذكية… لكن الحقيقة لا تحتاج دائمًا إلى من يبحث عنها.”
نظرت إليه مباشرة.
“أحيانًا… هي التي تبحث عمّن يقدر على تحمّلها.”
⸻
وقفت أمام السبورة، والطلاب يترقّبون الكلمات التالية.
أمسكت الطباشير، وكتبت بخط واضح:
“I am my true self.”
استدرت إليهم، ونظرت في أعينهم.
قلت بهدوء:
“لا يوجد جواب صحيح واحد…
لكن هذا الجواب يشمل كل الإجابات الممكنة.”
“أنا الحقيقي…
ذلك ما تعلّمته من الحياة.”
“حين لا يراك أحد، لا تمثّل، لا تتظاهر، لا تخاف…
فإما أن تكون… أو تتلاشى.”
سكتّ لحظة.
“هذا ما أريده منكم… أن تفكروا جيدًا:
من أنتم… عندما لا يُطلب منكم أن تكونوا شيئًا؟”
وضعت الطباشير جانبًا، وعدت إلى طاولتي.
الدروس الحقيقية لا تبدأ بالكلمات…
بل بالأسئلة التي تَعلق فينا طويلاً.
⸻
رنّ الجرس، فأنهيت الدرس بإغلاق دفتر الحصص بهدوء،
حملت حقيبتي الجلدية وخرجت من الفصل دون أن أزيد كلمة.
في الممر، خطواتي تمضي بثبات، حتى سمعت صوتها من خلفي:
“كوربا-سِنسي!”
توقّفت. استدرت ببطء.
ران موري كانت تقف، مترددة قليلاً، خلفها سونوكو تراقب بصمت.
اقتربت ران، وقالت بنبرة خفيفة يغلبها الحرج:
“هل صحيح أنك عدت مؤخرًا من نيويورك؟”
أومأت برأسي دون تفصيل.
سكتت لحظة، ثم أضافت:
“أنا آسفة… لما حدث لشارون فينيارد.
كنت أحب تمثيلها كثيرًا.”
نظرت إليها، لم أظهر أي انفعال.
ثم قلت بهدوء:
“هذه… هي الحياة.”
نظرت إليّ بملامح متأثرة،
لكنني تابعت السير دون أن أضيف كلمة.
⸻
في المساء، جلست على حافة السرير،
النافذة نصف مفتوحة، والهواء يحمل رائحة المدينة الرطبة،
بين أصابعي سيجارة مشتعلة، والدخان يتلوى بصمت.
اهتزّ الهاتف على الطاولة.
نظرت إلى الشاشة.
الاسم الظاهر: “بلموت”.
ابتسمت ابتسامة خفيفة، ثم أجبت دون أن أنطق بكلمة.
جاء صوتها ناعمًا، دافئًا كالعطر… وخبيثًا كالسُّم:
“كيف كان يومك الأول، كوربا-سِنسي؟”
لم أجب فورًا.
سحبت نفسًا من السيجارة، ثم قلت:
“هل هذا سبب اتصالك؟
أم أننا أصبحنا أحباء الآن؟”
ضحكت من الطرف الآخر، ضحكة قصيرة لكن حادة:
“جين لديه مهمة قادمة…
وستكون معه بعد أسبوعين، في الارض الاستوائية.”
أطفأت السيجارة في المنفضة، وسألتها دون تغيير نبرتي:
“وما الذي دفعك للاتصال بدلًا عنه؟”
قالت، بنبرة تملأها اللعِب:
“أردت فقط أن أعرف…
هل سيكون هناك موعد بيننا خلال المهمة؟”
صمتُّ.
مرّت لحظة، كأن الزمن تراجع خطوة إلى الوراء.
ثم قلت ببرود هادئ:
“هل ستقتلينني هناك؟”
ضحكت، همسها هذه المرة يشبه النصل:
“إذا كان الموعد مملًا… ربما.”
ابتسمت، وأجبت:
“لا تقلقي…
سأحرص أن يكون مشوّقًا بما يكفي لتأجيل القتل.”
انتهى الاتصال…
لكن نبرتها بقيت في الهواء.
⸻