مرّ أسبوعان بهدوء لم يخلُ من المراقبة.

في الصباح الباكر، وبينما كنت أتهيأ للذهاب إلى المدرسة، رنّ الهاتف.

نظرت إلى الشاشة.

الاسم: جين.

أجبت دون كلمة.

جاء صوته جافًّا، حادًّا كعادته:

“ستكون مهمتك غدًا… دعم ميداني.

هناك صفقة قيد التنفيذ، وسنحتاج إلى تغطيتك في حالة التداخل.”

أجبت باقتضاب:

“علم.”

أغلق الخط دون وداع.

وضعت الهاتف في جيبي، ثم التقطت حقيبتي وغادرت.

المدرسة – الصف 2-B

دخلت الفصل كالمعتاد.

ألقيت المحاضرة بهدوء، وجعلت الدرس يمضي كما لو أن لا شيء ينتظرني غدًا.

لكن عقلي… لم يكن هنا.

أنهيت الحصة، أغلقت دفتر الحصص، ثم قلت قبل مغادرتي:

“كودو شينيتشي…

الْحَق بي.”

رفعت رأسي، ونظرت إليه بثبات.

ران التفتت إليه باستغراب، وسونوكو رفعت حاجبها بتساؤل.

لكن شينيتشي لم يعلّق.

وقف، حمل حقيبته، وتبعني.

سطح المدرسة

وصلنا أولاً.

الهواء كان عليلًا، والمدينة تمتد أمامنا من بعيد، كأنها تراقب هي الأخرى.

وقفنا على سطح المدرسة.

الهواء يحمل نكهة رطبة، والسماء نصف ملبدة، وكأن المطر يراقب.

أشعلت سيجارة، وسحبت نفسًا عميقًا.

تركت الدخان يتسلل ببطء من بين شفتيّ، ثم قلت دون أن أنظر إليه:

“لا تذهب غدًا مع ران إلى الأرض الاستوائية.”

التفت إليّ فجأة.

“كيف علمت؟”

لم أجب فورًا.

اكتفيت بالصمت…

نظرت إلى الأفق الرمادي، ثم قلت:

“ليس مهمًا كيف عرفت…

لكنني أحذّرك من الذهاب.”

أخذت نفسًا آخر من السيجارة، ثم أضفت:

“لا أريد صداعًا إضافيًّا في المستقبل.”

ظلّ ينظر إليّ، حاجباه معقودان،

واضح أنه لم يفهم تمامًا، لكن عقله بدأ يدور.

لم أفسّر شيئًا.

استدرت، وسرت مبتعدًا، تاركًا إياه واقفًا خلفي.

في داخلي…

كنت أتمنى فقط أن يسمع النصيحة.

فليس كل تحذير يُعاد.

خرجت من المبنى في الصباح الباكر،

الهواء كان مشبعًا برطوبة ثقيلة، والسماء خالية من الشمس.

عند الرصيف، توقفت سيارة سوداء أنيقة.

النافذة الأمامية انخفضت ببطء.

كانت بلموت في الداخل… تنتظر.

جلست خلف المقود، النظارة الشمسية تخفي نصف نظرتها…

أما النصف الآخر، فكان كافياً ليخبرني أنها تعرف أكثر مما تقول.

اقتربتُ، فتحت الباب، جلست بهدوء دون أن أتحدث.

مدّت يدها إليّ، وفيها علبة سجائر.

أخذت واحدة منها، أشعلتها، وسحبت نفسًا عميقًا.

قلت دون أن أنظر إليها:

“أخبرني جين بأنكِ لن تشاركي في المهمة…

فما الذي جعلكِ تأتين؟”

نظرت إليّ بابتسامة صغيرة، وقالت بنبرة خفيفة:

“مجرد موعد…

أو أنك ترفض الخروج مع ممثلة مشهورة مثلي؟”

التفتّ نحوها، عيناي نصف مغمضتين.

قلت بصوت منخفض:

“لكن والدتك… توفيت منذ شهر.”

لم يتغيّر شيء في تعابير وجهها.

بل ابتسمت أكثر، وقالت بهدوء:

“لن يعرف أحد أنني هنا…

كما لم يعرفوا أنني كنت هناك.”

صمتّ.

صمت ثقيل، مرّ، لا يحتاج إلى تفسير.

تركت الحديث جانبًا.

نظرت إلى الطريق الممتد أمامنا، والدخان يتسلل من بين أصابعي.

لم أعد أسأل.

لكني كنت أفكر بصوتٍ داخلي لا يسمعه أحد:

“كودو… هل ستستمع إلى النصيحة؟

أم أن العناد سيسبق الخطر هذه المرة؟”

ركنّا السيارة في الجهة الخلفية من مدينة الملاهي، بعيدًا عن الأنظار.

السماء كانت قد اكتست بالسواد، والأنوار اصطفت كنجومٍ صناعية في كل زاوية.

صوت الموسيقى، ضحكات الزوّار، وصراخ الأطفال فوق الألعاب الدوّارة…

كل شيء بدا طبيعيًا، بريئًا…

لكن بيننا، الليلة لم تكن للهو.

دخلنا بخطى هادئة.

بلموت كانت تتنكر بهيئة سيّدة أجنبية، ترتدي فستانًا أبيض بسيطًا، وقبعة عريضة تخفي نصف وجهها، ونظارات داكنة تحجب بريق عينيها.

أما أنا، فارتديت قميصًا داكنًا، وبنطالًا أسود، وأبقيت يدي في جيبي.

بدونا كأي ثنائي في نزهة مسائية…

لكن أعيننا كانت تلاحق الزوايا، المخارج، وجميع الوجوه العابرة.

قالت بصوت خافت، دون أن تنظر إلي:

“الهدف سيصل عند الساعة التاسعة مساءً.

سيقترب من عجلة الملاهي، بمفرده.”

أجبت دون أن أغيّر نبرة صوتي:

“وصلنا قبل ساعة… الوقت الكافي لفهم كل زاوية هنا.”

مررنا قرب كشك لبيع الحلوى، بجانب مجموعة مراهقين يلتقطون صورًا ويضحكون بصخب.

لكنني كنت أراقب شيئًا آخر…

خريطة الموقع.

المخارج، نقاط التغطية، ومواقع الرؤية العالية.

ورغم ثباتي الظاهري، كان سؤال يتردّد في رأسي كصدى لا يهدأ:

“هل تجاهل كودو تحذيري…؟

هل هو هنا الليلة؟”

اهتزّ الهاتف في جيبي وأنا أتمشّى إلى جانب بلموت ، تحت أضواء الملاهي المتلألئة.

أخرجته، نظرت إلى الشاشة.

الاسم: جين.

أجبت بصوت خافت:

“نعم؟”

جاء صوته هذه المرة ممزوجًا بالضيق:

“علقت في قضية قتل وقعت في الأفعوانية…

لكنها حُلّت سريعًا، على يد فتى محقّق.”

صمتُّ للحظة، ثم قال:

“الآن، اذهب إلى موقعك المطلوب فورًا.”

أجبت باقتضاب:

“علم.”

أغلقت الخط،

وأطلقت زفرة دخان بطيئة، ثم تمتمت بمرارة:

“اللعنة عليك… أيها المتحري.”

بلموت التفتت إلي، بنبرة هادئة:

“ما الأمر؟”

نظرت أمامي وقلت:

“لا شيء…

ساذهب إلى الموقع

ابقي هنا.”

تابعت السير دون تبادل مزيد من الكلمات.

دخلت بين الأروقة الخلفية، متجاوز الألعاب الصاخبة والممرات المضاءة.

ثم انعطفت نحو زاوية معزولة خلف إحدى الألعاب القديمة،

حيث توجد حديقة صغيرة مستورة عن مرأى الناس ، محاطة بسياج نباتي كثيف.

في الجهة الخلفية من الحديقة، بعيدًا عن ضجيج الألعاب،

كان فودكا يقف تحت ظلال أحد الأروقة، يتبادل ظرفًا ماليًا مقابل مجموعة من الصور ،

العملية قصيرة، محسوبة، بلا كلمات زائدة.

لكن… لم يكن وحده من يراقب.

من بين الظلال، تسلّل شينيتشي كودو.

كاميراه الصغيرة في يده،

أنفاسه هادئة، خطواته محسوبة، عينيه تترصّد كل حركة.

لكنه لم يشعر… أن أحدًا كان خلفه.

صفعة حادة ارتطمت بمؤخرة رأسه.

سقط أرضًا.

كان جين هو من ظهر من العتمة،

عيناه كالجمر، وسلاحه في يده الأخرى.

تقدّمتُ من الجهة المقابلة،

نظراتي لم تكن متفاجئة… بل هادئة.

قال جين بصوت بارد وهو ينظر إلى جسد كودو الممدد:

“هذا… عقار جديد قاتل، طورته المنظمة.

لم يُجرّب على أحد حتى الآن.”

ثم أخرج كبسولة صغيرة، وفتح فم كودو بالقوة،

وسقاه العقار.

كودو حاول المقاومة… لكن وعيه كان يتلاشى.

اقتربت منه، وانحنيت بخفة.

كان جسده يرتجف، ونظرته ضبابية.

همست له بصوت منخفض، لا يسمعه غيره:

“ألم أقل لك… أن تحذر؟”

لم يكن يرى سوى شيء واحد…

قدماي.

ثم…

سقط في الغياب.

غادرت المكان ،

خلفي… بقي جسد شينيتشي كودو ممددًا في ظلمة الحديقة،

لا أحد يعلم… ولا أحد سمع.

التقيت في بلموت

الهواء كان قد برد، ورائحة الليل اختلطت بالدخان في فمي.

أشعلت سيجارة، وسحبت نفسًا بطيئًا، ثم قلت لها بنبرة عابرة:

“فلنذهب إلى مطعم فاخر.”

نظرت إليّ، ثم ابتسمت بخفة.

نظري انتقل إلى وجهها… ثم إلى شعرها المستعار، ونظارتها الداكنة.

قلت بنبرة أكثر وضوحًا:

“لكن… بمظهرك الحقيقي.”

ابتسمت ابتسامة هادئة.

أدخلت يدها إلى ياقة الثوب، وسحبت ببطء طرف القناع.

نزعت التنكر… وظهرت بلموت الحقيقية.

شعرها الأشقر انسدل بحرية،

ونظراتها استعادت بريقها القديم.

قالت:

“أعرف مطعمًا جيدًا…

في هذا الاتجاه.”

أشرت برأسي بهدوء:

“إذاً… دلّيني.”

جلسنا في ركن هادئ من المطعم،

أمامنا أطباق مرتبة بعناية، وأنوار خافتة تنعكس على حواف الكؤوس.

بلموت رفعت نظرها عن الطعام وسألت بهدوء، دون مقدمات:

“ما الذي كانت ستكون عليه حياتك… لو لم تكن المنظمة موجودة؟”

سحبت نفسًا قصيرًا من السيجارة، ثم نظرت إليها بثبات:

“كنت سأكون… مجرد معلّم.

رجل يعيش مع عائلته، دون أسلحة، دون مهمات، دون دماء.”

ابتسمت، ابتسامة لم تخفِ سخرية خفيفة:

“يصعب تخيّل ذلك…

أنت لا تبدو صالحًا للروتين.”

قلت وأنا أضع السيجارة جانبًا:

“وأنتِ… كنتِ ستغدوين نجمة عالمية.

أضواء، سجاد أحمر، معجبون… حياة متعبة.”

أجابت بنبرة ساكنة، وهي تقطّع قطعة من طعامها:

“وقد تكون حياتي مرهقة بالفعل…

لكن حياتك ستكون… صعبة بحق.”

صمتنا للحظة.

أنا كنت أراقب انعكاس الضوء في كأس الماء.

لكن عقلي… كان في مكان آخر.

في صورة ذلك الفتى… كودو.

وفي الأسئلة التي سيبدأ بطرحها حين يستيقظ.

شعرت بنظرتها عليّ، ثم قالت:

“ماذا بك؟”

رفعت عيني إليها، وقلت بهدوء:

“اليوم…

هو يوم ولادة الرصاصة الفضية الثانية…

للمنظمة.”

نظرت إليّ باستغراب خفيف،

لكنني لم أشرح.

عدت إلى طعامي،

وكأن شيئًا لم يُقَل…

لكن كل شيء تغيّر.

2025/05/24 · 69 مشاهدة · 1173 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025