جلست أمامه بثبات، الكرسي الخشبي يُصدر صريرًا خافتًا تحت وزني.

قلت بنبرة هادئة:

“من الأدب أن أُعرّف بنفسي أولاً…

كوربا رين، مدرس.”

رفع رأسه قليلاً، وجهه جامد، تخفيه نظارة سوداء سميكة ، تحجب نظرات لا أعرف إن كانت حادة أم منطفئة.

“كانيشيرو جينيشيرو،

فقط رجل أعمال كبير في السن.”

كلماته كانت مختصرة، لكن في نبرته هدوء لا يخلو من عمق.

نظرت إليه بتركيز، وقلت:

“اسم العائلة… سمعته من قبل.”

لم يرد.

بل اكتفى بالصمت…

لكن صمته لم يطل.

تدخل صوت صغير، لكنه حاد:

“هل تنوي الحصول على فيروس الكمبيوتر أيضًا؟”

استدرت، فكان كونان يقف بجانب الطاولة،

عيناه تلمعان خلف نظارته، رغم ابتسامته الهادئة.

“أنا إيدوغاوا كونان،

من الغرفة 1902.

أيمكنك إخباري بشيء؟”

قالها وكأنه بريء… لكنه لم يكن كذلك.

رد العجوز، دون أن يلتفت إليه:

“ومن أخبرك بهذا؟”

أجاب كونان، بخفة:

“الجميع في المجموعة يتحدثون عن فيروس ما…

لكن لا أحد يعرف التفاصيل.

كل ما ينبغي معرفته هو أنه برنامج ذكي.”

رفع كانيشيرو رأسه قليلاً، وصوته أبطأ:

“الاسم…”

استغرب كونان:

“الاسم؟”

أكمل العجوز، صوته عاد أكثر ثباتًا:

“في الماضي…

دخل فيروس إلى حواسيب الشركات الكبرى،

وعبث بأنظمتها، أفسد بيانات، وشلّ سير العمل في أكثر من خمسين مؤسسة.”

صمت للحظة… ثم تابع:

“كان مبرمجًا باتقان…

بدرجة يستحيل معها تعقّبه أو إيقافه.

كثيرون حاولوا، ولا أحد نجح.”

“كان شديد المراوغة… ولهذا، أطلق عليه الناس لقب…”

“بارون الليل.”

ارتجفت عين كونان لوهلة:

“بارون… الليل؟!”

أومأ العجوز:

“كل من له علاقة بعالم البرمجة يعرف هذا الاسم…

ولو بمجرد السمع.”

نظرت إلى كونان،

ورأيتها… لمحة الصدمة الأولى.

لكنني لم أقل شيئًا.

بارون الليل…

بدأت تتضح صورته.

لكن الغريب… أن الجميع يعرف اسمه،

ولا أحد يعرف من خلفه.

شي شي

أكمل العجوز حديثه، وصوته انخفض فجأة، كأن شيئًا من الماضي أطبق على صدره:

“حينما سمعت ذلك الاسم مجددًا…

تذكرت ابني.”

صمت.

ثم قال بنبرة فيها شيء من الانكسار:

“توفي منذ أربع سنوات.”

“ها؟”

نظرت إليه بقوة.

الكلمة خرجت مني دون قصد، لكنها حملت دهشة صافية.

كان جلوسه ساكنًا، لكن يداه انكمشتا على حافة الطاولة،

والغموض في صوته ازداد.

في تلك اللحظة، ظهرت امرأة، كانت تحمل صينية صغيرة…

وجهها هادئ، لكن عيناها فاحصتان.

“ما الأمر أيها الفتى؟”

قالت وهي تحدّق بكونان.

كونان ارتبك للحظة، ثم ابتسم مصطنعًا:

“أوه! لا شيء!

فقط سؤال بسيط!”

ثم استدار بخفة، وقال مازحًا:

“أراك لاحقًا… جدي.”

وهرول مبتعدًا.

لكنه لم يغادر… دون أن يُرسل إليّ تلك النظرة.

نظرة قصيرة، حادة، تحمل رسالة صامتة:

“يبدو أنني سأُحقّق مع كل من تتحدث إليهم.”

نظرت إلى العجوز مجددًا.

لكنه كان قد عاد إلى سكوته،

كأن ذكرى ابنه قد أغلق عليه الباب من الداخل.

جلستُ للحظات، ثم نظرت إلى العجوز،

قلت بنبرة ناعمة، لكنها مباشرة:

“ما سبب ادعائك للعمى؟”

لم يحرّك ساكنًا،

وجهه ظلّ ساكنًا، كأنه لم يسمع… أو لم يشأ أن يجيب.

قبل أن أكرر سؤالي، دوّى صوت ارتطام عنيف .

صرخة حادة شقّت هواء الفندق.

نهضت فورًا.

توجهت نحو مصدر الصوت، تبعني ضجيج الأقدام المرتبكة والوجوه المتفاجئة.

في ساحة الفندق الداخلية… كان هناك جسد.

سقط من الطابق العلوي، واخترق صدره رمح تمثال حجري .

رأيت الجسد مستلقيًا، ساكنًا، والدم يسيل من طرف التمثال إلى البلاط.

الجميع صرخوا:

“بارون الليل!”

نظرت إليه.

جريمة قتل مبتكرة…

لم تكن سريعة أو نظيفة.

“من الأسهل قتله بطريقة مباشرة…

لكن من يفعل هذا، كان يحمل شيئًا أعمق من نية القتل.

كان يحمل حقدًا.”

انحنيت، رفعت القناع ببطء.

“إيبار…”

نظرت إلى وجهه الميت، ثم فكرت:

“مبرمج…

اذا هو من اخترع فيروس ’بارون الليل‘.”

“من يكن له هذا القدر من الكراهية؟”

نظرت خلفي…

فلمحت الخادمة ، خادمة العجوز، تقف على بعد خطوات، تحدّق بصمت.

لكن أين كانت عندما تركت العجوز ؟

قبل أن أحرّك خطوة، جاء صوت العجوز من خلفي:

“ليمُت ’بارون الليل‘ بهذه الطريقة…

يالها من قصة حزينة.”

نظرت إليه للحظة، لم أُجب.

ثم استدرت، وغادرت ساحة الفوضى.

“لأدع التحقيق للصبي…”

“فالموتى… لا يشغلونني.

ما يشغلني… هم الأحياء.”

دخلت غرفة الاستجواب.

الهواء بارد… والمكان ضيق،

لكنه ليس غريبًا علي.

العم موري كان يجلس على الكرسي المقابل، مائلًا للأمام، نظرته حادة على غير عادته.

قال دون مقدمات:

“كوربا-سينسي…

أين كنت لحظة وقوع الجريمة؟”

جلست بهدوء، نظرت إليه بثبات، ثم أجبت:

“كنت مع الرجل العجوز… كانيشيرو.”

صمت لحظة، ثم أضفت:

“بعدها خرجت قليلاً لأدخّن.”

موري عقد حاجبيه:

“هل من شاهد على ذلك؟”

رفعت كتفي بهدوء:

“كانيشيرو نفسه…

وقد تراني أحد الموظفين عند الباب الخلفي.”

تأملني موري، كأنه يبحث عن صدع في صوتي.

لكني لم أمنحه شيئًا.

صمت…

ثم نظر إلى دفتر ملاحظاته.

أما أنا،

فأغمضت عيني للحظة،

عدت إلى المطعم الخارجي بهدوء،

كل شيء عاد كما كان…

أطباق، طاولات، أصوات خافتة، وكأن شيئًا لم يحدث.

جلست في نفس الزاوية،

وأكملت طعامي وكأن الحياة لم تتوقّف للحظة.

بعد دقائق، اقترب مني كونان.

وقف بجانبي، يحدّق في الطبق أمامي، ثم قال:

“تأكل بهدوء… في مكان وقعت فيه جريمة قتل؟”

رفعت نظري إليه، ثم قلت بنبرة باردة:

“هل ستضيع وقتك في إلقاء المحاضرات…

أم أنك ستُكمل التحقيق؟”

صمت، ثم أنزل عينيه للحظة.

أخذت رشفة من الماء، ثم نظرت إليه، وقلت:

“سأمنحك تلميحًا واحدًا فقط…”

“عليك أن تقيس اتجاه الريح… وقوّتها،

إن كنت تريد معرفة كيف سقطت الجثة في المكان الصحيح.”

توقف، عينيه ثبتتا عليّ، وكأن شيئًا اشتعل في رأسه.

عدتُ إلى الطعام.

قطعت قطعة من اللحم بهدوء، ثم قلت في داخلي:

“خبرتي في القنص… أخبرتني بالقاتل منذ اللحظة الأولى.

لكن لا رغبة لي بسرقة الأضواء…

فهذا دوره الآن.”

نظرت إليه.

كان واقفًا أمامي، لا يتحرّك.

عينيه تلمعان بخفة،

كمن التقط الخيط…

لكنه يغرق في تفكيكه.

غرق في التفكير أمامي…

وأنا فقط…

أكملت مضغي.

كان لا يزال واقفًا أمام طاولتي،

صامتًا…

لكن عيناه تحدقان بي بتركيز مزعج،

مليء بالأسئلة… وربما بالاتهام.

نظرت إليه بحدة، ثم قلت ببرود:

“اللعنة عليك… أيها الطفل،

ماذا تريد؟”

لم يُجِب.

ظلّ يرمقني بعينيه الصغيرتين،

كأنما يريد أن ينتزع مني شيئًا… دون أن ينطق.

نظرت حولي.

الطاولات خالية، المكان شبه فارغ.

لا أحد يُراقب… لا أحد يلاحظ.

رفعت يدي ببطء،

ثم… رفعت إصبعي الوسطى باتجاهه ،

بلا كلام، بلا تلميح… صريحة، كما ينبغي.

ثم همست له:

“سبب الجريمة؟

ذلك الفيروس…

أحدث أذى كبيرًا في حياة القاتل.”

أخذت نفسًا بطيئًا، ثم أشرت له بطرف يدي:

“ابتعد عني…

واقبض على القاتل.”

لوّحت له بخفة:

“هش هش.”

ثم عدت إلى طبقي،

وتركت عقله يغلي.

وقف الجميع في بهو الفندق،

الوجوه متوترة، والأنفاس محبوسة.

توغو موري كان يتحدث بنبرة واثقة،

يده تشير، صوته يرتفع وينخفض…

لكن عينيه مغمضتان بثقل غريب،

وهو في الحقيقة… نائم كالعادة.

كونان، خلفه مباشرة، يُحرّك شفتيه بخفة،

يوجّه التحقيق بدقّة، وكأن بينه وبين الحقائق حبل خفي لا يراه أحد.

الجميع انبهر…

الخادمة انهارت،

القاتل انكشف.

صفق بعض من الحاضرين،

وآخرون تنفسوا الصعداء.

أما أنا…

فلم أصفّق.

جلست في زاويتي، أشرب آخر رشفة من قهوتي الباردة،

نظرت إلى كونان من بعيد، عينيه لم تلتقِ بعينيّ…

لكنه كان يعلم أنني كنت أراقبه.

تمتمت في داخلي:

“مسرحية جميلة، أيها الفتى.

لكن الستارة لم تُسدل بعد.”

وقفت بهدوء،

رتّبت سترتي، ثم سرت خارج البهو، لا أحد ناداني… ولا أردت ذلك.

الموتى انتهوا…

أما الأحياء، فحسابهم لم يبدأ بعد.

قبل مغادرتي بهو الفندق،

وقفتُ لحظة قرب أحد الأعمدة الرخامية،

أخرجت هاتفي من جيبي الداخلي بهدوء.

رأيت العجوز “كانيشيرو” يجلس على الأريكة الجلدية،

وخادمته واقفة خلفه، تنظر إلى الأرض…

كأنها تخفي شيئًا، أو تخشى شيئًا.

رفعت الهاتف…

نقرت الشاشة،

“التقطت الصورة.”

صورة واحدة فقط…

بلا فلاش، بلا صوت.

أعدت الهاتف إلى جيبي.

“ليست من أجل تذكار…

بل لسبب آخر.

خاص.”

ثم استدرت،

وغادرت المكان،

تاركًا خلفي مشهدًا بدأ وكأنه انتهى…

لكنني كنت أعلم:

بعض الملفات… لا تُغلق بالصوت، بل بالصورة.

أطفأت السيجارة في المنفضة الزجاجية،

وأنا لا أزال أحدق في وجه الشاب الأشقر على الشاشة.

ثم نقرت بأصابعي بهدوء على لوحة المفاتيح،

بدأت ملفات الصور تظهر واحداً تلو الآخر.

وتوقفت عند صورة ثالثة.

رجل في منتصف العمر، ببدلة رسمية، يقف خلف منصة خشبية،

وأمامه ميكروفونات عديدة…

وفي الزاوية، شعار رسمي لمقاطعة أوكيناوا.

الاسم أسفل الصورة كان واضحًا:

“السيد هيوغو كانيشيرو – محافظ مقاطعة أوكيناوا.”

رفعت حاجبيّ ببطء،

ثم نظرت مجددًا إلى صورة “كانيشيرو” العجوز في الفندق…

نفس العائله،

لكن ليس نفس الرجل.

أعدت ترتيب الصور الثلاث:

العجوز في الفندق – الشاب الأشقر – المحافظ الرسمي.

ثلاثة وجوه…

واسم واحد.

همست وأنا أُشعل سيجارة جديدة:

“إما أن الرجل مات…

أو أنه يتقن ارتداء الوجوه.”

أخذت نفسًا عميقًا من الدخان،

ثم نظرت إلى الباب المغلق…

وتساءلت داخلي:

“هل هذا العجوز…

هو من أعتقده؟”

2025/05/25 · 42 مشاهدة · 1322 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025