⸻
في عتمة الغرفة،
جلستُ أمام الشاشة،
الضوء الأزرق ينعكس على وجهي،
وأنفاسي تختلط بدخان سيجارتي الثانية.
مددت يدي نحو الهاتف الصغير…
الهاتف الذي لم أستخدمه إلا لأجلها.
ضغطت الرقم الوحيد المسجّل فيه.
رنّ الهاتف.
رنّة أولى…
ثانية…
ثالثة…
رابعة…
ثم… جاء صوتها.
“مرحباً… رينرو.”
نبرة هادئة،
لكن خلفها تعب طويل،
وخوف لم تعد تحاول إخفاءه.
سألت بصوت خافت:
“متى ستبدأ العملية؟”
أجبت بعد لحظة صمت:
“بعد أسبوع.”
ساد الصمت بيننا لثوانٍ،
ثم قلت بصوت منخفض،
لكن حاسم:
“سيكون هذا…
آخر أسبوع لكِ في المنظمة.”
لم ترد.
لكن أنفاسها تغيّرت.
كأن شيئًا في صدرها انكسر… أو تحرّر.
أنا لا أعطي وعوداً كثيرة،
لكن حين أعِد…
فالأرض نفسها تبدأ بالتحرّك.
⸻
أغلقت المكالمة مع أكيميي،
وساد الغرفة صمت ثقيل،
كأن الهواء نفسه ينتظر ما سأفعل.
أخرجت هاتفاً آخر…
خط مشفّر، لا يُستخدم إلا في الحالات الحرجة.
فتحت القفل،
وضغطت على الاسم المخزّن: “A.”
رنّ مرة واحدة فقط…
ثم جاء الصوت من الطرف الآخر،
هادئًا، مختصرًا، ومألوفًا:
“أكاي.”
قلت دون مقدّمات:
“بعد أسبوع…
ستكون آخر فرصة لإخراج أكيميي ميانو من المنظمة.”
لم يتأخر في الرد، نبرته لم تتغير:
“علم.
سأكون متواجدًا خلال يومين.”
أغلقت الخط دون وداع،
فالكلمات بيننا تُقال حين تستدعيها الضرورة فقط.
هكذا تُصنع الخطط…
وهكذا تُستعاد الأرواح من قاع الظلام.
⸻
في عمق الليل،
الغرفة لا يُسمع فيها سوى طقطقة عقارب الساعة…
ووهج شاشة صغيرة تضيء اسمي في الظلام.
أخرجت هاتفاً آخر، مختلفاً.
الرقم الذي سأتصل به لا يُستخدم عبثاً.
ضغطت الاتصال.
انتظرت.
رنّ الهاتف.
ثم… جاء الجواب.
لكن لم يُسمع صوت.
هو… بوربون.
صمته لم يُفاجئني.
قلت بهدوء، دون لف أو دوران:
“الآن… عليك أن ترد.”
توقفت لثانية، ثم أكملت بصوت أثقل:
“دين إنقاذي لسكوتش…
لم أنسَه.
ولا أظنك نسيته.”
استمر الصمت.
لكنني كنت أعلم… أنه يستمع.
ثم جاء صوته، خافتًا، حادًا، مقتضبًا:
“تعال بعد ثلاثة أيام…
في المكان المعتاد.”
ثم أغلق الخط.
نظرت إلى الشاشة التي انطفأت.
وضعت الهاتف على الطاولة ببطء،
ثم تمتمت:
“دين… يُسدّد في الظل، لا في الضوء.”
⸻
المكان المعتاد…
مبنى مهجور في أحد أطراف المدينة،
هدوء ثقيل، وجدران تآكلها الزمن…
وشرفات تطلّ على العدم.
كنت واقفًا في الزاوية،
الساعة تقترب من منتصف الليل،
والجو مشبع برائحة الغبار والحديد.
الخطوات الأولى جاءت…
هادئة، مدروسة،
تبعها ظل طويل يحمل ثقلًا مألوفًا.
أكاي شويتشي.
وقف في منتصف القاعة، يراقب الظلام حوله،
وعينه الوحيدة تُحدّق بي، لكنها لم تسأل شيئًا.
ثم… بعد دقائق،
خطوات أخرى.
أخفّ… لكن مشبعة بالحذر.
بوربون.
وقف عند المدخل، نظر أمامه،
ثم رأى أكاي.
عيناه اتّسعتا، وجهه تصلّب.
“أكاي…”
“بوربون.”
نطق كلاهما الآخر، لكن في نبرة مختلفة:
واحدة تحمل الهدوء الحاد،
والأخرى… جمرة لم تنطفئ.
رفعت يدي، فقط إصبعان،
وأنا واقف بينهما، ثم قلت بنبرة قاطعة:
“أنا من ناديتكم.”
“لا أحد جاء بالآخر… سواي.”
صمت.
الهواء نفسه بدا كأنه توقف عن الحركة.
نظرت إليهما ببرود، ثم أضفت:
“اجلسوا…
⸻
في صمت المبنى المهجور،
جلس أكاي متقاطع الذراعين،
و بوربون واقف قرب الحائط، نظره متوتر، لكن ثابت.
أما أنا، فوقفت أمامهما،
أنظر إليهما واحدًا تلو الآخر،
ثم قلت بنبرة ثابتة، دون مساومة :
“خُطتي بسيطة…
لكن تنفيذها، عليكم أن تختاروه الآن.”
اقتربت خطوة، ثم أردفت:
“يجب عليكم…
أن تختطفوا أكيميي ميانو
من أعين المنظمة.”
نظرت إليهما بثقل:
“لا يهمني الكيف…
ولا الطريقة التي ستفعلون بها ذلك.
لكن…”
توقفت، عيناي تحدقان في أعينهم:
“إن لم تفعلوها…”
صمتٌ قصير.
“فسأطبّق خطتي الخاصة.”
خفضت صوتي، لكن كلماتي انغرست كحد السكين:
“وهي ستكون…
مجنونة.”
بوربون نظر إلي بشك.
أكاي ظل ساكنًا، لكنني رأيت تلك النظرة…
نظرة من يعرف أنني لا أهدّد عبثًا.
“لديكم ثلاثة أيام…”
قلت قبل أن أستدير.
“احموا حياتها…
أو… راقبوا جحيم المنظمة وهو يتفتّح.”
⸻
يوم العملية.
الساعة كانت تقترب من الثالثة فجرًا…
المدينة صامتة،
لكن شيئًا في الهواء كان يوحي بأن الصمت… على وشك أن ينكسر.
في غرفتي المظلمة،
جلست أمام الطاولة المعدنية.
أخرجت الحقيبة السوداء،
فتحتها بهدوء.
بندقية القنص.
من طراز مُعدّل، بكاتم صوت،
ودقة لا تخطئ القلب.
فككت القطع،
نظفتها واحدة تلو الأخرى،
ركّبت العدسة، ثبّتت الكاتم،
ثم حمّلت الرصاصة… كما أحمل قراري.
ارتديت ملابسي السوداء،
قفازات جلدية،
وقناع رقيق يغطّي النصف السفلي من وجهي.
⸻
قبل ساعة من التسليم.
وصلت إلى المنطقة المحددة.
المكان: رصيف شحن مهجور، قرب مخزن بحري قديم.
المحيط شبه خالٍ…
لكنه مكشوف.
بدأت أبحث.
خطوت بين الظلال، تفحّصت الأسطح، نقاط الرؤية، الزوايا المرتفعة،
وأخيرًا…
وجدتها.
رافعة قديمة، صدئة، متوقفة منذ سنوات،
لكنها تطلّ على ساحة التسليم من زاوية مثالية.
تسلقت الصعود الخشبي ببطء،
خطوة تلو أخرى،
حتى وصلت إلى القمة.
انبطحت،
ثبت البندقية،
أخرجت جهاز الاتصال.
الآن…
أنا في موقعي.
عيناي على كل شيء.
⸻
اقترب وقت الغروب.
لون السماء بدأ يميل إلى الذهبي الداكن،
والظلال اتّسعت فوق الرصيف الصامت.
من خلال السماعة المثبّتة في أذني،
جاء صوت بوربون منخفضًا، لكنه واضح:
“تمت تصفية نصف المراقبين التابعين للمنظمة.
نحن نُمسك الأرض.”
أجبت بهدوء:
“حسنًا.”
ثم حولت الاتصال إلى قناة أخرى،
وناديت:
“أكاي… استمع جيدًا.”
“مهمتك أن تخطفها فورًا…
حين تسمع هديّتي.”
جاء صوته من الجهة الأخرى، مترددًا قليلًا:
“هديّتك؟”
ابتسمت.
ابتسامة قصيرة لا يراها أحد، لكن البندقية رآتها.
كنت منبطحًا فوق الرافعة،
عدستي تراقب ساحة التسليم،
وعيناي ثابتهما على سيارة سوداء فارهة،
توقفت قبل دقائق.
في المقعد الأمامي… جين.
إلى جانبه… فودكا.
همست في داخلي:
“هذه لكم…
جين، فودكا…
هديّتي الخاصة.”
أغلقت تنفسي، ثبّتت إصبعي على الزناد…
وبقيت فقط أنتظر اللحظة… التي تغيّر كل شيء.
⸻
اللحظة جاءت.
من خلال عدسة البندقية، رأيت السيارة التي تقِلّ أكيميي ميانو تدخل نطاق الساحة.
بوربون تحدث في السماعة بصوت منخفض، لكنه حاسم:
“تمّت تصفية بقية المراقبين.
المحيط نظيف.”
نقلت العدسة ببطء…
فرأيت أكاي يتقدّم من الجهة الأخرى،
كظلٍّ يتقن التوقيت، وينتظر الإشارة.
تحرّكت عيني إلى الطرف الآخر من الساحة…
سيارة بيضاء، مركونة وحدها، بعيدة عن الجميع.
هادئة… لكنني أعرف أنها ليست فارغة.
أدخلت إصبعي في فمي…
بللته،
ثم رفعته،
شعرت بتيار الريح البسيط يدفع باتجاه الجنوب الغربي.
عدّلت الزاوية…
صوّبت نحو الجزء الخلفي من السيارة،
تحديدًا… إلى ركن خزان الوقود.
سحبت الزناد.
بوم!
الانفجار دوّى في المكان.
لهبٌ تصاعد فجأة،
صراخ، فوضى، وزجاج يتناثر.
رأيت جين يفتح باب سيارته بسرعة،
وفودكا يتبعه وهو ينظر حوله بجنون.
عيني جين اتسعتا…
فهم… أنها كمين.
فخ.”
دون تردد، ركبا السيارة، وانطلقا بعيدًا.
رأيتهما يهربان…
ولم أطلق.
لماذا؟
لأني لا أملك سببًا لقتلهم،
ولا ثأرًا لأدفنه في صدورهم.
أنا منهم…
لكن بلا ولاء.
وكل ما أردته الليلة…
هو انقاذ صديقه
أعدت إصبعي عن الزناد،
وراقبت دخان الانفجار وهو يرتفع في سماء المساء.
⸻
بعد انتهاء كل شيء،
غادرت نقطة القنص متخفّياً في الظلال،
وسرت على الطريق المتفق عليه.
نقطة اللقاء بيني وبين أكاي.
مكان ناءٍ خلف مبنى قديم، محاط بأشجارٍ خريفية كثيفة،
هدوءٌ تام، إلا من صوت الريح وهي تمسّ الأوراق المتساقطة.
وصلت،
وما إن رأيت السيارة السوداء الصغيرة متوقفة،
حتى فُتح الباب الخلفي…
خرجت هي.
أكيميي ميانو.
ركضت نحوي…
كأنها تحررت من قيدٍ دام أعواماً.
ثم… عانقتني.
بقوة… بلا تردد.
“شكراً، رينرو…”
قالتها، ونبرتها كانت مزيجاً بين الانهيار والامتنان.
أجبتها بهدوء:
“لا تقلقي.
أنا دائماً أُوفي بوعودي.”
لكنها نظرت إليّ بنظرة محبطة، متوترة…
عينان تسألان عن أختها، شيهو.
فهمت ما لم تقله.
قلت لها:
“لا تقلقي…
أختك ستكون بخير.”
نظرت إليها بثبات:
“هي مهمة جداً للمنظمة،
أهم مني… ومنك.
لن يمسوها.”
لكن قلقها لم يهدأ.
اقتربت خطوة…
قلت بهدوءٍ أثقل هذه المرة:
“سأحميها.”
فجأة، دفنت وجهها في صدري،
صمتت… ثم همست:
“شكراً لك، رينرو…”
وأحسست بدموعها وهي تنساب،
باردة… مريحة،
كأنها كانت تحمل كل الهموم التي نزعت عن كتفيها لتوها.
في تلك اللحظة…
لم أكن قاتلاً،
ولا مخترقاً للمنظمة،
ولا حتى شريكاً لأكاي…
كنت فقط… الإنسان الذي أوفى بوعده.
⸻
خرج أكاي من جهة السيارة،
فتح الباب الخلفي بهدوء،
وأكيميي ركبت دون أن تلتفت،
لا حاجة للكلمات الآن…
كانت تعرف أنها خرجت من الجحيم.
مشيت نحوه،
عيناي على الظلال خلفه، ثم ثبتّ نظري فيه، وقلت:
“هي أمانة في يديك.”
توقفت، ثم أضفت، دون تغيير في نبرتي:
“إن بلغني أنها اشتكت منك…
فستكون تلك مماتك.”
أكاي رفع حاجبه قليلًا، ثم تنهد بسخرية خفيفة:
“لقد تعودت على التهديدات…
حتى صرت لا أستطيع العيش من دونها.”
ابتسمت.
ولأول مرة،
ابتسامة خفيفة، بلا سخرية،
لكنها كانت حقيقية.
قلت في داخلي:
رغم اختلاف الطرق…
نفهم بعضنا بطريقتنا الخاصة.
ثم أغلقت باب السيارة بيدي،
وتراجعت خطوة…
تاركه يرحل.
⸻