في زاوية هادئة من مقهى صغير في ضواحي طوكيو،

جلستُ عند الطاولة الخلفية،

أرتدي قبعة سوداء، وكمامة تخفي النصف الأسفل من وجهي.

الضوء خافت،

لكن عينيّ كانتا ترصدان كل تفصيلة.

دخل ماتسودا جينبي.

بخطواته الواثقة ونظرته التي لا تزال ساخرة كما كانت.

رفعت يدي بتحية هادئة:

“مرحباً، نيسان.”

ثم أنزلت نظري قليلاً نحو من بجانبه.

فتاة ذات شعر قصير ونظرات فاحصة.

“لكن… ألم يكن لقاؤنا خاصًّا؟”

ابتسم ماتسودا وقال وهو يجلس:

“هذه ساتو. شريكتي في القسم.

لحقت بي… لأنها لم تصدّق أنني ذاهب للعمل أصلاً.”

نظرت إليّ الفتاة، رفعت حاجبًا وقالت بسخرية:

“وكيف لي أن أصدّق؟

وأنت دائمًا تبحث عن الفرص للتهرب من المكتب؟”

ضحكتُ، وسألت ممازحًا:

“هل تتواعدان؟”

تجمّد الجو للحظة.

ماتسودا نظر بعيدًا، و ساتو احمرّ وجهها.

“لا!”

قالها الاثنان في الوقت نفسه.

تنحنحت ساتو، واستعادت هدوءها:

“مرحباً… أنا الشرطية ساتو.

كما سمعت، شريكة ماتسودا في القسم

ابتسمتُ بلطف،

ثم خلعت الكمامة، وقلت:

“وأنا كوربا رين.

الاسم مختلف…

لأن والدي بالتبنّي منحني لقبه، لكن الجينات ما زالت تربطني بأخي.”

ثم مددت يدي، ونظرت إليها بثقة وهدوء:

“سعيد بلقائك، ساتو.”

“لم أرك منذ ثلاث سنوات…”

قلت ذلك وأنا أضع فنجان القهوة على الطاولة الخشبية،

نظرت إلى وجهه الذي احتفظ بذلك المزج الغريب

بين الهدوء… والشرارة القديمة في عينيه.

ابتسم ماتسودا وقال:

“لقد مضت مدّة فعلاً…

وما زلت مدينًا لي بالكثير من التفسيرات، رين.”

ابتسمت ورددت بهدوء:

“ليس وقت معرفتك، نيسان.”

ثم التفتُّ نحو المرأة الجالسة إلى جانبه،

بابتسامة هادئة قلت:

“أنا الآن أعمل كمدرّس… في مدرسة تيتان الثانوية.”

رفعت ساتو حاجبها بدهشة، وقالت:

“مدرّس؟ كم عمرك، كوربا-كون؟”

“عمري 21 تقريبًا.”

قلتُ ذلك ببساطة، ثم تناولت رشفة أخرى.

ردّت بنبرة مدهوشة:

“أصغر بكثير من المتوقع… لا يبدو عليك!”

قهقه ماتسودا وقال لها:

“أخي قد لا يبدو هكذا،

لكنه عبقري…

ولد وهو يتجاوز القوانين والكتب الدراسية معًا.”

ضحكتُ، ثم نظرت إليهما وسألت بسخرية خفيفة:

“قسم الجرائم، أليس كذلك؟”

أومأت ساتو.

فقلت بتهكم ساخر، وأنا أرفع حاجبيّ:

“لابد أن حياتكما رائعة…

مشاهدة جثث كل يوم،

وكأن الموتى أصبحوا روتينًا صباحيًا.”

ضحك ماتسودا بصوت خافت وقال:

“صدقني، بعضهم أقل إزعاجًا من زملائنا الأحياء.”

ابتسمت ساتو، ثم قالت:

“لكننا نُفضّل الجثث على التعامل مع الهاربين من المدرسة.”

ضحكتُ أنا الآخر، وقلت:

“لكلّ مهنته جحيمه،

لكن على الأقل… جثثكم لا تُجادل.”

ساد صمت لطيف بعد المزاح.

ثم رفعت بصري إليهم وتمتمت:

“من الجيد أنكما لا تزالان على قيد الحياة.”

نهضت من مكاني بهدوء،

سحبت قبعتي من على الطاولة،

ووضعتها فوق رأسي ببطء.

نظرت إلى أخي…

عينيه لا تزالان تتابعانني كما في كل لقاء،

كأنما يخشى أن أذوب مرة أخرى في العدم.

“هل ستختفي مجددًا؟”

سألني بصوته الهادئ.

توقفت لحظة،

ثم التفت إليه وأجبته بنبرة ثابتة:

“ليس في الفترة الحالية.”

نقلت نظري نحو ساتو ، التي لم تُزِح عينيها عني منذ لحظة الوقوف،

قلت لها بنبرة أكثر هدوءًا:

“ساتو-سان…

علاقتي بأخي، ماتسودا،

هي سرّ…

سرّ مهم.”

“ولا يجب لأحد أن يعرفه.”

لم أطلب وعدًا،

ولم أنتظر ردًا.

ثم استدرت،

وغادرت المقهى.

خطاي لم تكن ثقيلة،

لكنها كانت تحمل وزن سنوات من الظل،

وأسرار… لا تُقال على الطاولات.

خلفي…

ظلّ الاثنان ينظران.

وأنا…

لم ألتفت.

خرجت من الأزقّة الضيقة خلف المقهى،

السماء ما زالت رمادية…

والهواء يحمل نبرة مساء غير مكتمل.

رنّ الهاتف.

رقم مشفّر، لا يظهر سوى باسم واحد:

“جين.”

أجبت دون كلمة، فجاء صوته البارد المعتاد:

“شيري… هربت.”

توقفت في مكاني،

مقلتاي تحدقان في الأرض،

لكن عقلي بدأ بالحركة فورًا.

سألته:

“متى؟”

“أمس.”

قالها باختصار، ثم أردف:

“مهمتك الآن… البحث عنها.”

أجبت بثبات:

“علم.”

ثم… أقفل الخط.

أعدت الهاتف إلى جيبي،

وأخرجت سيجارة، أشعلتها بهدوء.

نفثت الدخان، ثم تمتمت:

“شيري…

أين تختبئين؟”

أدرت ظهري للشارع،

واتجهت مباشرة نحو أول نقطة منطقية…

“منزل الدكتور أغاسا.”

وصلت إلى الحي القديم في الضاحية الغربية من طوكيو.

الشوارع ضيقة، والمنازل متجاورة،

لكن منزل الدكتور أغاسا كان يحمل طابعاً فريداً…

مزيجاً من عبث العلم ودفء العزلة.

وقفت عند الباب،

وضغطت على الجرس.

لحظات قصيرة، ثم فُتح الباب.

رجل عجوز بدين، يرتدي نظارات عريضة،

وشعره الأبيض مبعثر كما توقعت.

الدكتور أغاسا بنفسه.

قلت بنبرة هادئة، ووجه مبتسم:

“مرحباً،

أنا أستاذ في مدرسة تيتان الثانوية.

كونان أخبرني أن ألتقيه هنا…

هل هو موجود؟”

رمقني الدكتور بنظرة فاحصة خلف عدسته السميكة،

ثم قال:

“كونان لم يرجع من المدرسة بعد…

لكنها ستنتهي بعد ساعة تقريباً.”

أجبت بهدوء:

“هل يزعجك إن انتظرته هنا؟

لن آخذ من وقتك كثيراً.”

تردّد للحظة،

ثم ابتسم وقال:

“لا بأس، تفضّل.”

دخلت المنزل.

رائحة الزيت والأجهزة الإلكترونية القديمة تملأ المكان،

طاولة مليئة بالأدوات… وممر يؤدي إلى الداخل.

خلعت حذائي،

وسرت بخطى ثابتة.

“مكان مثالي…

لإخفاء فتاة تعرف كيف تهرب من الظلال.”

قلت ذلك في داخلي،

بينما عيناي بدأت تستكشفان التفاصيل.

انتظرت بصمت،

عيناي تتفحّصان تفاصيل المنزل…

كل شيء يوحي بالطمأنينة،

لكن خلف كل هذا… كانت الحقيقة تهتز.

رنّ صوت الباب يُفتح،

ودخل كل من:

كونان… وهايبرا.

وقفا عند العتبة، ثم تجمّدا.

نظراتهما اصطدمت بي،

وشيء في وجهي أخبرهما أن الصمت… لن ينفع.

تقدّمت.

مددت يدي… أمسكت بكتفيهما.

“الحقا بي…

ألن تريدا أن يكون الدكتور أغاسا في مأمن؟”

رأيت الصدمة،

والخوف،

والأسئلة التي لم ينطق بها أحد.

قادتهما إلى الغرفة الرئيسية،

جلسا أمامي،

وجلس الخوف بيننا.

أخرجت مسدساً صغيراً من جيبي الداخلي،

ووضعته بهدوء على الطاولة أمامهما.

صوت المعدن وهو يلامس الخشب…

كان كافياً لكسر أي وهم.

قلت بهدوء… كمن يتحدّث عن نشرة الطقس:

“أعتقد أنكما تعرفاني.

عضو في المنظمة…

التي قلّصتك، كونان…

وكانت تراقبك، شيري.”

اتسعت أعينهما،

هايبرا اختنقت بأنفاسها،

وكونان…

مدّ يده إلى ساعته، بتلك الحركة التلقائية.

لكني كنت أسرع.

أمسكت علبة الصودا من جانبي،

ورميتها عليه بدقّة.

“طاخ!”

ارتطمت بجبهته.

شهق.

اقتربت منه،

انحنيت…

وخلعت ساعته من معصمه.

نظرت إليه بعينين هادئتين، وقلت:

“هل هنالك خدع أخرى؟”

نظرت إلى هايبرا ،

كانت ساكنة، لكن عيناها تموجان بخوف عميق.

فقلت لها بنبرة وادعة… لكنها ثقيلة بالمعنى:

“جين… اتصل قبل قليل.

سلّمني مهمة البحث عنك.”

نظرت إليّ،

كأن قلبها توقف للحظة.

لكنني تابعت:

“الآن… هنالك شخص يريد محادثتك.”

أخرجت هاتفي من جيبي،

وفتحت جهة الاتصال،

كتبت: [A] – الاسم المحفوظ لـ أكاي.

ضغطت الاتصال.

رنّ الهاتف.

رنة أولى…

رنة ثانية…

رأيت كونان و هايبرا يتجمّدان.

تلك الرنّة… لم تكن صوت هاتف،

بل كأنها جرس الموت.

كأن الماضي ذاته عاد لينتزع روحهما من الحاضر.

ثم… جاء الصوت.

“أكاي.”

قلت بهدوء:

“سلم الهاتف.”

ثم…

سمعت الصوت.

صوتٌ ليس من الظلام… بل من النور البعيد:

“شيهو؟”

كانت “أكيميي”.

سلمت الهاتف إلى هايبرا …

كانت يدها ترتجف، كأنها تقاوم الموت نفسه.

وضعت الهاتف في كفها،

ولم تمضِ سوى ثوانٍ… حتى انطلقت تلك الكلمة:

“شيهو!”

رأيت الدمعة تنزل ببطء من عينيها،

صامتة… حارّة… حقيقية.

ابتسمتُ.

تمتمت في داخلي:

“الأختان…

اللّتان عانتا من أخطاء أبيهما…

ها هما تلتقيان من جديد.”

كونان نظر إليّ،

عيناه هدأتا، تنفّسه استقر،

لم يعد يراك عدوًا… بل شيئًا آخر لا يمكن تسميته.

رفعت إصبعي الأوسط بهدوء نحوه،

فابتسم بمرارة.

وفي تلك اللحظة…

دخل الدكتور أغاسا،

يحمل صحنًا من الحلويات،

وجهه مفعم بالترحيب:

“آه! لقد جلبت لكم بعض الحلوى… كضيافة!”

ثم توقف فجأة،

تجمّد حين رأى هايبرا،

والدمعة لا تزال على خدها،

والهاتف في يدها.

نظر إليّ.

فأجبت بابتسامة هادئة:

“إنها تتحدث… مع أختها.”

ظلّ الدكتور أغاسا واقفاً للحظات،

عينيه تتنقّلان بين هايبرا التي لا تزال تمسك الهاتف،

وبيني، وأنا أتابع المشهد بهدوء.

ثم سألني بصوت خافت، لكنه يحمل عمق الدهشة:

“كيف عرفت بحقيقتها… شيهو ميانو؟”

نظرت إليه،

وابتسمت ابتسامة هادئة، ثم قلت:

“كنتُ صديقًا لأختها.”

كلماتي نزلت كجملة واحدة،

لكن خلفها أعوام من الأسرار،

ودماء، وخوف، ووعد قُطع في الظلام.

هايبرا أعادت الهاتف بيد ما زالت ترتجف قليلاً،

لكن عينيها…

كانتا أكثر وضوحًا، أقل وحدة.

من الطرف الآخر، جاء صوت أكيميي ،

هادئًا، ممتنًا:

“شكرًا لك، رينرو…”

ثم تابعت:

“أرجوك… ساعد أختي، كما ساعدتني.”

أجبتها بصوت منخفض، صادق:

“لا تقلقي، أكيميي…

لقد وعدتك… بحمايتكما أنتما الاثنتان.”

صمتٌ قصير عبر الهاتف،

ثم جاء صوتها مرة أخرى،

فيه ابتسامة خفية عبر الموجات:

“شكرًا… مرة أخرى.”

أغلقت المكالمة.

ونظرت إليهم…

ثم عدت إلى مقعدي،

وأخذت قطعة من الحلوى من صحن الدكتور أغاسا،

كأن كل شيء… قد عاد طبيعيًا.

لكننا نعلم جميعًا…

أن لا شيء في هذا العالم الطبيعي حقًا.

كان كونان يحدّق بي…

عيناه ضيقتان، فيهما ذلك البريق الذي لا تخطئه،

بريق المحقق حين يشمّ رائحة غموض لا يرتاح له.

اقترب مني بخطوات حذرة،

كأنما يتهيأ لاستجوابٍ رسميّ… أو معركةٍ كلامية.

“من أنت حقًا؟

ماهي المنظمه

من انتم

كان يسأل… لا ليعرف، بل ليراقب رد الفعل.

لكنني لم أنظر إليه.

بل وقفت، سحبت قبعتي من على الطاولة،

ووضعتها على رأسي.

قلت بهدوء، وأنا أستدير نحو الباب:

“مهمتي… انتهت.”

“وما بعد المهمة…

لا يُروى.”

فتح فمه ليتحدث مجددًا،

لكنني رفعت يدي ببطء، دون أن ألتفت،

في إيماءة صامتة كأنها نهاية فصل.

ثم خرجت من منزل الدكتور أغاسا،

والهواء البارد في الخارج كان خفيفًا…

وكأن عبئًا سقط عن المكان لم يشعر به أحد إلا أنا.

2025/05/25 · 51 مشاهدة · 1388 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025