خرجت من الحمام،
بخار الماء لا يزال يملأ المرآة.
ارتديت قميصًا قطنيًا داكن اللون،
ثم توجهت إلى الطاولة قرب النافذة.
وضعت الهاتف أمامي.
رنّ.
“راي – اتصال مشفر.”
سحبت السماعة بهدوء.
“أكاي.”
صوته كان منخفضًا كعادته،
لكن فيه شيء… مشدود أكثر من المعتاد:
“المنظمة… بدأت تتحرك.
عملية تطهير داخلية.”
لم أُجبه فورًا.
فتحت النافذة قليلًا،
أشعلت سيجارة.
ثم قلت دون التفات:
“تطهير؟”
“نعم.
أحدهم يُمرّر معلومات بشكل منتظم.
التحقيق بدأ… والعيون أصبحت حمراء.”
سحبت نفسًا من السيجارة،
ثم قلت بنبرة هادئة:
“بمن تشك؟”
صمت.
ثم جاء اسمه:
“شكوتس.”
…
صوت الرياح دخل من النافذة.
لكن الصمت بيننا كان أعلى.
…
أطفأت السيجارة.
رفعت الهاتف مجددًا،
فتحته على اتصال مشفّر ثانٍ.
[Vermouth – private]
رنّ مرتين فقط.
“عزيزي أبسينث، لم أتوقع—”
“الجواسيس…
أريد التفاصيل.”
صوتها تغيّر.
“أوه، أنت تقصد التطهير؟
جين بدأ يشك… يقول إن الجواسيس يتكاثرون،
والمنظمة لم تعد كما كانت.”
صمتُّ.
ثم سألت بصوت منخفض:
“من سيتم تصفيته؟
وما مصدر هذه الشكوك؟”
ردت بهدوء:
“لدينا مصدر داخل الأمن العام…
جاسوس يعمل هناك.
أرسل تحذيرًا مشفّرًا قبل يومين.”
أغمضت عيني.
ثم قلت:
“جيد.”
أغلقت بلموت الخط.
لم يكن الوقت للسؤال.
بل للمراقبة… قبل أن أُراقَب.
⸻
نزلت السلالم بهدوء،
الشارع أمامي… خافت الإنارة، لكنه مكشوف بما يكفي ليدعوك للحذر.
ركبت البورش 911.
أغلقت الباب،
أدرت المفتاح.
المحرك تنفّس بقوة.
أخرجت علبة السجائر،
وضعت واحدة،
أشعلتها.
الدخان كان أول إعلان للحركة.
اتصلت.
[راي – اتصال مشفّر]
أجاب بسرعة،
صوته يبدو كأنه يركض:
“أبسينث؟”
قلت مباشرة:
“أين موقع سكوتش؟”
صمت لثانيتين.
ثم جاء الرد:
“أنا الآن في مطاردته.
الاسم الرمزي: Scotch.
شوهد جنوب مجمّع شينكو، بالقرب من الخط الثالث عشر.”
أرسل الموقع.
أغلقت الخط.
ضغطت على البنزين.
السيارة انطلقت.
لهيب المحرك يعلو.
أخذت نفسًا عميقًا من السيجارة،
وتركتها مشتعلة في طرف فمي.
سكوتش
⸻
دخلت الشارع الخلفي بهدوء،
الضوء الخافت لكشاف الشرطة ارتدّ على الجدار المتهالك.
أوقفت السيارة قرب الرصيف.
رأيت راي يقف في الظل،
عيناه مرفوعتان نحو الطابق العلوي للمبنى المهجور.
ترجّلت.
اقتربت منه.
“هو هنا؟”
أومأ.
“الطابق الأخير… السطح.
سكوتش لم يغادر. كان يتنقل بين النوافذ طوال الساعة الماضية.”
نظرت إلى السلم الخارجي.
صدى الرياح يضرب الحديد البارد.
تقدّمت.
لكن قبل أن أضع قدمي على أول درجة…
قلت:
“انتظر هنا.”
راي التفت إليّ،
لكن لم يعارض.
“سأصعد وحدي.”
…
الدرجات تئنّ تحت خطواتي،
لكن خطواتي أهدأ من الرصاص.
سكوتش…
: سطح المبنى المهجور – حي شينكو
8:09 مساءً
دفعْتُ باب السطح الحديدي،
صدر منه صرير خافت… ثم انغلق خلفي بهدوء.
الهواء كان بارداً، والمدينة تلمع تحتي كأنها لا تشعر بما يحدث فوقها.
سكوتش كان هناك.
واقفًا عند الحافة،
نصفه في الظل، والنصف الآخر في ضوء النيون البعيد.
يده قريبة من جيبه.
لم أرفع سلاحي.
لم أتكلم فوراً.
ثم، بصوت ثابت لكنه منخفض، قلت:
“سكوتش…”
التفت قليلاً،
عيناه حذرتان… لكنه لم يسحب شيئاً.
أكملت:
“أنا…
أخو ماتسودا جينبي.”
رأيت الارتباك يمرّ على وجهه للحظة،
ثم شيئاً من التراجع الطفيف في كتفيه… لا هجوم، ولا استسلام.
تقدّمت خطوة.
“أعرف من أنت،
وأعرف لمن تعمل،
وأعرف لماذا تركت كل الأبواب مفتوحة خلفك.”
توقّف…
لكنّه لم يتكلّم.
قلت أخيراً، وبصدق واضح:
“اعتذر…
لكن لا يمكنني أن أترك صديق أخي يموت اليوم.”
الهواء بيننا سكن فجأة،
وكأن المدينة تحبس أنفاسها بانتظار ردّه.
⸻
الرياح تدور حول السطح،
تصفّر بين فتحات المعدن الصدئ،
لكن المكان لا يصدر صوتًا سوى دقات الصمت بيننا.
سكوتش كان يقف هناك،
عيناه إلى الأسفل…
يده على المسدس عند خاصرته.
أنا لم أرفع سلاحي.
فقط تقدّمت خطوة، ببطء.
ثم قلت:
“اسمي… ماتسودا رينرو.”
رأيت جسده يتوتر.
“أخو ماتسودا جينبي.”
التفت إليّ ببطء،
عينيه تمتلئان بالدهشة… وبالخوف المتردد.
“الاسم الذي يعرفه الجميع هو أبسينث.
لكن لا أحد… يعرف من أكون فعلاً.”
سكتُ لحظة، ثم أضفت:
“ولا أحد…
يعلم بهويتك.”
اقتربت منه خطوة أخرى.
كان على وشك سحب سلاحه،
لكنني كنت أسرع.
انقضضت عليه فجأة، أمسكته من الرسغ،
سحبت المسدس من يده قبل أن يرفّ جفنه،
ووضعته في جيبي الخلفي.
نظر إليّ مصدومًا، بين الذهول والعجز.
قلت بهدوء:
“انتهى الأمر.”
نظرت في عينيه بثبات:
“لن يعلم أحد بوجودك…
لا المنظمة، ولا الشرطة، ولا حتى من أرسلهم خلفك.”
“أنت حر الآن…
لكن لا ترفع يدك على رأسك مرّة أخرى.”
…
الهواء سكن.
وصوت المدينة عاد تدريجيًا من خلف السور.
لكنه… لم يكن أعلى من صوت الحياة…
التي استُردّت في آخر لحظة.
⸻
نظرت إلى سكوتش ،
كان واقفًا بصمت، عينيه لا تزال بين الشك والارتياح.
قلت بهدوء:
“انتظر هنا.
لا تتحرك.”
استدار قليلاً، لكنه لم يعترض.
سحبت هاتفي،
فتحت خطًا مشفّرًا خاصًا بي وحدي ،
رقم لا يظهر إلا في الأوقات التي لا تُفتح فيها الأبواب بالطرق.
رن مرة.
ثم رد.
“رينرو؟”
قلت:
“الأمر مهم.
أريد اسم الجاسوس المنظمي في الأمن العام…
وأريد أيضًا أسماء الجواسيس الذين كشفهم.”
لم أُمهله للرد.
أغلقت الخط.
نظرت للسماء.
ثلاث ثوانٍ فقط…
ثم انفتح باب السطح ببطء.
دخل راي.
الضوء الخلفي جعل ظله أطول من جسده.
وبعده…
دخل بوربون.
اثنان من أخطر رجال الاستخبارات…
في مكان واحد…
وأنا واقف بينهما.
الهواء تغير.
لا أحد تكلّم.
لكن كل نظرة…
كانت تعني أكثر من جملة.
⸻
وقفتُ في مواجهة بوربون ،
راي خلفي،
وسكوتش ما زال ينتظر عند طرف السطح.
أخرجت هاتفي،
اهتزّ في يدي.
[رسالة واردة – خط مشفّر خاص]
فتحتها.
سطر واحد.
“الجاسوس المنظمي في الأمن العام: دارك موكا
الاسم الحقيقي: يوزاكي كورين.”
أغلقت الشاشة.
رفعت عيني بهدوء نحو بوربون،
نظرت إليه مباشرة.
“هل تعرف الاسم؟”
لم ينتبه، فقط قال:
“أي اسم؟”
ابتسمت ابتسامة خفيفة.
“دارك موكا.”
…
تجمّد.
لم يرفّ له جفن،
لكنني رأيت عينيه تشكّان في كل شيء فجأة.
توقّف تنفّسه للحظة.
كان هذا الاسم كالقنبلة…
لا تحتاج أن تنفجر، يكفي أن تُقال.
“يوزاكي كورين.”
أضفتها بهدوء شديد.
…
بوربون صمت.
ليس لأنه لا يعرف…
بل لأنه يعرف أنه في اختبار.
عيناه لم تتركا وجهي.
ابتسامته اختفت.
وظهره المستقيم… صار أكثر توترًا.
لم أطلب منه تفسيرًا.
ولم أسأله عمّا إذا كان يعرفه.
أنا فقط وقفت هناك…
أراقب رد فعله.
وبعد ثوانٍ من الصمت القاتل…
قلت بصوت منخفض:
“خذ سكوتش…
وافعل ما تشاء.”
ثم استدرت نحو راي:
“فلنغادر.”
⸻
كان الصمت يُسيطر على المقصورة.
المدينة تمر بجانبي عبر الزجاج…
ضوء بعد ضوء، إشارة بعد إشارة،
لكن الجو داخل السيارة… ثابت.
راي كسر الصمت أخيرًا، بصوته الرزين:
“يوزاكي كورين…”
نظرت إليه من دون أن ألتفت برأسي.
“هو الجاسوس المنظمي في الأمن العام؟”
قلت بهدوء:
“نعم.”
لم يعلّق.
لم أضف شيئًا.
…
الإجابة لم تحتج تفسيراً،
والسؤال لم يحتج تكراراً.
كان يعلم أنني لا أتحدث إلا عندما أختار…
وأن ما قيل، لا يُقال مرتين.
أكملت القيادة.
والدخان من طرف السيجارة تساقط بثبات…
كما سقطت أوراق كثيرة من دفتر المنظمة… اليوم.
⸻
السيارة تسير بخط مستقيم،
كأن الطريق نفسه يخشى الانحناء أمام ما يحدث.
راي قال بعد صمت طويل:
“ماذا ستفعل الآن؟”
لم ألتفت إليه.
أخذت نفسًا من السيجارة، ثم أجبت:
“سأسرّب.”
رفع حاجبه، لكن لم يقاطع.
“قائمة جواسيس جديدة…
من طرف جاسوس آخر.”
ثم أكملت:
“لكن… من طرف مختلف.”
…
صمت قصير.
ثم قلت:
“اسم سكوتش… لم يُذكر في قائمة يوزاكي كورين.”
نظرت إليه أخيرًا.
“إذا أرادوا التطهير…
فليطهّروا أنفسهم أولاً.”
…
راي لم يعلّق.
لكنه علم…
أن هناك حربًا جديدة ستُكتب…
بقوائم لا أحد يعرف من كتبها.
⸻
⸻
الإشارة الحمراء توقفت بهم
8:41 مساءً
الهدوء كان يسيطر على السيارة،
حتى نطق راي فجأة، دون أن يلتفت:
“قل لي بصراحة…
أنت جاسوس لمن؟”
أخرجت نفسًا من السيجارة،
ابتسمت بخفة، دون أن أنظر إليه:
“لست بجاسوس.”
“بل أنا تابع للمنظمة.”
توقف للحظة… كأنه ينتظر النهاية.
أكملت:
“لكن ولائي…
لن يكون أبدًا لأحد.”
“ولائي لنفسي…
ولمن أعتبرهم أصدقاء.”
…
صمت.
الإشارة تحوّلت إلى خضراء،
تابعت السير ببطء.
ثم أضفت، بنبرة ناعمة لا تشبه حروب الجواسيس:
“هدفي؟”
“التقاعد بسلام.”
…
راي ابتسم ابتسامة صغيرة،
كأنّه لأول مرة… صدّق كل شيء.
⸻
أوقفت السيارة بهدوء أمام البناية.
راي فتح الباب دون أن ينظر إليّ،
خطواته على الرصيف كانت بطيئة… متزنة.
لم يقل وداعًا.
ولم أتوقع منه ذلك.
…
نظرت إليه عبر المرآة الجانبية،
ورأيته يدخل المبنى كأنه يختفي في ظله.
رجل مثله لا يحتاج بابًا خلفه…
فهو دائمًا يترك نافذة مفتوحة في ذهنه.
أشعلت سيجارة جديدة.
صمت.
تركت المحرك يعمل…
لكنني لم أتحرك فورًا.
“هو لا يصدقني تمامًا…
لكنه لا يستطيع تكذيبي.”
“يسأل كثيرًا…
لكنه يعرف متى يتوقف.”
أخذت نفسًا من السيجارة،
نظرت إلى الشارع أمامي.
الناس تريد إنقاذ العالم،
لكنني…
أريد فقط أن أخرج منه.”
ابتسمت.
“التقاعد بسلام.”
نطقتها في ذهني كما قلتها له.
لكنها بدت… أبعد.
أدرت المقود،
وانطلقت بهدوء.
…
في المرآة…
لم يكن هناك أحد.
لكنني كنت أعلم:
راي سيبدأ بالمراقبة الآن…
لأني قلت الحقيقة.
و الحقيقة دائمًا…
أخطر من الكذب.
⸻