السنة: 9989 من العصر الرابع – إمبراطورية فاليريا – بارونية داركلين

عمر زيريوس: خمس سنوات

على مائدة العائلة

لم تكن الصباحات في قلعة داركلين تبدأ بالشمس، بل بعبير الخبز الساخن ورائحة الحساء المتبّلة.

في هذا اليوم، اجتمع أفراد العائلة حول الطاولة المستديرة المصنوعة من خشب السنديان الأسود، بينما توهجت النيران في المدفأة، ودندن أحد الخدم بلحن قديم من الجنوب.

جلس البارون ماركوس داركلين في رأس المائدة، يتفحّص الصحون بعينٍ ناقدة، لكنه لم يعلّق كعادته.

عن يمينه جلست زوجته، الليدي روزاليا، تغمس قطعة خبز في الصلصة ثم تهمس لابنها:

– "لا تسرح بخيالك كثيرًا، صغيري… نحن نأكل، لا نناقش الحروب الآن."

ضحك زيريوس بصوت خافت، ثم قال:

– "لكنني كنت أفكّر إن كانت قارات الأقزام تعتمد على الضرائب ذاتها التي تحدّث عنها معلمي أورن…"

قاطعته روزاليا بلطف:

– "ليس الآن يا وريث داركلين، دع الضرائب تتأجل إلى ما بعد الإفطار."

رفع ماركوس حاجبه بابتسامة نصف خفية:

– "إنه لا يتأخر في التفكير، أليس كذلك؟"

ردّت المربية إليسا، التي وقفت في الزاوية كعادتها:

– "سيادة البارون، إنه يحسب عدد حبّات الفاصوليا على طبقه. أظنه يحاول إيجاد منطق اقتصادي في توزيع الطعام."

ضحك الجميع.

ثم دخل الخادم الشخصي راوند بخطوات منتظمة، وانحنى:

– "وصل السيد كاليوس، معلمه الاقتصادي، وهو في انتظاركم في القاعة الدائرية."

ردّ ماركوس بهدوء:

– "دعه ينتظر قليلاً… دع الوريث يعرف أن الوقت الثمين يُؤخذ، لا يُعطى."

قال زيريوس وهو يمسح يديه بمنديله:

– "لكنه قال إن من لا يُدرك كيف تُدار الأسواق… يُباع فيها."

ضحك ماركوس بصوتٍ عالٍ هذه المرة:

– "ربما علينا ألا نجعل هذا الشاب ينتظر طويلاً إذًا."

* بداية الدرس الاقتصادي

دخل المعلم الاقتصادي "كاليوس" إلى غرفة الدراسة الهادئة، مرتديًا سترة خفيفة من الكتان الرمادي، ويحمل حقيبة جلدية أنيقة. كانت ملامحه تدل على ثقة هادئة، ونظرته حادة كمن اعتاد التفاوض مع الدوقات والتجار الكبار.

جلس أمام زيريوس، الذي كان بانتظاره بعيون فضولية.

قال بنبرة لطيفة:

– "صباح الخير يا سيد زيريوس… هل أنت مستعد لأن تتعلم أين تكمن السلطة الحقيقية؟"

رفع زيريوس حاجبيه ببراءة:

– "أليست في السيوف والجنود؟"

ضحك كاليوس، وأخرج من حقيبته مجموعة من العملات المعدنية المتنوعة، وبلورات صغيرة، وورقة ملوّنة عليها خريطة للعالم.

– "بل في هذه... العملات. ومن يملكها، يستطيع أن يُشعل الحروب ويُخمدها دون أن يرفع سيفًا."

وضع العملات أمامه، وبدأ يشرح واحدة تلو الأخرى:

"هذه العملة النحاسية تُستخدم بين العامة… لا تشتري سوى الخبز والماء."

"أما الفضة، فهي عملة التجار الصغار، ويدفع بها الحرفيون أجورهم."

"الذهب؟ هذا ليس للجميع. من يملكها، يُقيم صفقات، ويُسقط خصومًا."

"ثم هناك العملات البلاتينية… نادرة، لا تُتداول إلا في المجالس العليا."

ثم أمسك بكريستالة زرقاء مضيئة:

– "وهذه كريستالة مانا منخفضة. أغلى من الذهب… تُستخدم في التجارة بين الفصائل والكنائس، وفي شراء المواد السحرية والعبيد."

توسعت عينا زيريوس، وسأل:

– "هل يملك الجميع هذه الكريستالات؟"

أجابه كاليوس بابتسامة جادة:

– "لا يا سيدي… من يملك الكريستالات، لا يكون من الجميع."

ثم فتح الخريطة، وأشار إلى ثلاث مناطق محددة:

– "هناك ثلاث قوى اقتصادية كبرى تتحكم في القارة البشرية:

نقابة التاج الذهبي – مركزها العاصمة الإمبراطورية، وتسيطر على خطوط الإمداد والضرائب.

سوق الرماد – سوق سري يتعامل بالسلع المحرمة، محمي من بعض النبلاء.

تحالف الخيوط المظلمة – شبكة مالية خفية، تُحرّك الملوك من خلف الستار."

وضع كاليوس قطعة نقدية ذهبية في يد زيريوس، وقال:

– "ستتعلم كيف تُمسك هذه القطعة… لا لتشتري بها، بل لتجعل الآخرين يحتاجونها منك."

أغلق دفتره، ونهض واقفًا:

– "هذا مجرد المدخل… غدًا سنبدأ بدراسة الضرائب، وكيف تُفلس الممالك رغم قوتها."

هزّ زيريوس رأسه بحماس، في حين دوّن في عقله سؤالًا جديدًا:

"إن كانت الثروة تُحرك العالم… فكم يلزمني لتحريكه بأكمله؟"

* مفاهيم المال والسلطة

في صباح اليوم التالي، دخل كاليوس إلى قاعة الدراسة وهو يحمل صندوقًا خشبيًا صغيرًا. جلس أمام زيريوس، فتح الصندوق، وأخرج منه مجموعة من الكريستالات بدرجات ألوان مختلفة.

قال بهدوء:

– "اليوم سنتحدث عن جوهر الاقتصاد في هذا العالم… الكريستالات."

مد يده نحو كريستالة خضراء باهتة، وقال:

– "هذه كريستالة منخفضة. تُستخدم في التجارة العامة. يستطيع النبلاء الصغار والعائلات المتوسطة استخدامها لشراء الأعشاب، الأدوات، وحتى خدمات العبيد البسطاء."

ثم أشار إلى واحدة بلون أزرق مشرق:

– "هذه متوسطة. نادرة أكثر… تُستخدم لشراء المواد السحرية، تعاقدات الحماية، أو حتى اتفاقيات مع مرتزقة."

وأخرج واحدة بنفسجية:

– "كريستالة متقدمة… هنا يبدأ النفوذ الحقيقي. لا يحصل عليها إلا من له مكانة مرموقة، أو من دخل لعبة القوى الكبرى."

وأخيرًا، وضع أمامه كريستالة ذهبية متوهجة:

– "كريستالة كمال… لا يملكها إلا قادة الجيوش، أو النبلاء من طبقة الدوق وما فوق. وهي العملة التي تُشترى بها الأسرار… أو تُرتّب بها الانقلابات."

كان زيريوس يراقب كل كريستالة كأنها كنز، ثم سأل:

– "وهل يستطيع الفقير أن يمتلك واحدة منها؟"

ضحك كاليوس بحرارة، وردّ:

– "الفقير الذي يمتلك كريستالة كمال… لن يبقى فقيرًا. لكن الأهم أن يعرف كيف يحميها… لأن العالم لن يرحمه."

ثم بدأ يرسم على اللوح الطباشيري خلفه:

– "النظام الاقتصادي في عالم أولدراث يُقسَّم إلى مستويين:

النظام العلني: عملات نحاسية، فضية، ذهبية، وبلاتينية. تُستخدم بين العامة، وتُدار بها الأسواق المرئية.

النظام السري: كريستالات الطاقة… وهي غير خاضعة للقوانين، وتُتداول بين الكنائس، الفصائل، السحرة، والتجار الكبار."

ثم نظر إلى زيريوس نظرة جادة:

– "من يتحكم بالكريستالات… لا يحتاج إلى التتويج. لأن الملك الحقيقي… هو من يُطاع دون أن يُرى."

قال زيريوس بهدوء:

– "وأين تقف بارونية داركلين في هذا النظام؟"

رد كاليوس بتروٍّ:

– "في المرحلة الأولى. لكنها تملك ما لا تملكه الكثير من البارونيات… وريثًا يملك فضولًا قاتلًا."

ابتسم زيريوس ابتسامة هادئة، وقال في نفسه:

"فضولي لن يقتلني… بل سيرشدني."

*النقود والناس

كان الدرس هذه المرة مختلفًا. لم يجلس كاليوس خلف الطاولة، بل طلب من زيريوس أن يرافقه في جولة داخل القلعة.

قال له:

– "أنت لا تفهم المال حقًا… حتى تراه وهو يتحرك بين الأيدي."

بدأت الجولة من المطبخ، حيث كانت الطاهية تعد الخبز وتصرخ على المساعدين.

همس كاليوس:

– "الطحين هنا لا يُشترى بكريستالات، بل بالذهب والفضة. كل شيء بسيط… يتم عبر النظام العلني. لكن انظر إلى الرجل الذي يقف عند الباب."

كان هناك رجل نحيل ينتظر عربةً، يحمل حقيبة جلدية.

– "هذا تاجر أعشاب نادرة. لم يأتِ ليبيع في السوق… بل جاء ليسلّم البارون صفقة سرية. هل تعرف كيف سيُدفع له؟"

هز زيريوس رأسه.

قال كاليوس:

– "بكريستالات… لأنه يجلب شيئًا لا يُعلن عنه."

وصلا بعد ذلك إلى جناح الخدم، حيث كانت المربية توزع أجور الخدم.

سأل كاليوس:

– "كم تعتقد أن أجورهم في الشهر؟"

أجاب زيريوس:

– "لا أعرف… ربما خمس قطع ذهبية؟"

ابتسم كاليوس:

– "الخادمة العادية تحصل على ثلاث فضيات في الأسبوع. والطباخ الرئيسي قد يحصل على قطعة ذهبية واحدة فقط. أما إن أردت شراء ولائهم… فذلك شيء آخر تمامًا."

رفع سبابته:

– "المال لا يشتري كل شيء… لكنه قادر على كسر أشياء كثيرة. الخادم الذي يراك كريمًا سيخدمك بإخلاص، والخادم الذي تسرق حقه… سيبيعك من أجل درهم."

ثم اقتاد زيريوس إلى الشرفة المطلة على ساحة التدريب، حيث الجنود يتمرنون.

– "كل واحد من هؤلاء يُطعم، ويُكسى، ويُجهّز… لكن عندما تنشأ الحرب، ستحتاج إلى أكثر من مجرد رواتب. حينها… الكريستالات هي ما يجلب الولاءات، والولاءات تجلب الانتصارات."

في نهاية الجولة، جلسا على المقاعد الحجرية في الحديقة الصغيرة.

قال زيريوس:

– "كل شيء مرتبط بالمال… حتى الجندي، وحتى الخادم."

هز كاليوس رأسه:

– "ليس المال بحد ذاته، بل ما يمثّله. إنه رمز للثقة، للقوة، للقدرة على الفعل. لكن تذكّر يا صغيري… إذا أنفقت كل شيء بسرعة، ستنتهي بسرعة. وإذا كنزته بلا هدف، ستموت فوق جبل من الكريستال ولن يحزن عليك أحد."

مدّ يده وأعطى زيريوس قطعة نحاسية صغيرة، منقوش عليها وجه إمبراطور قديم.

– "احتفظ بها. إنها لا تساوي شيئًا تقريبًا، لكنها أول قطعة نقدية تحملها كنبيل. لا تنسَ أنها مجرد البداية."

نظر زيريوس إلى العملة، وأغلق كفه عليها كأنها كنز، بينما عيونه تفكّر في ما هو أبعد بكثير من قطعة نحاس.

* نظرة فوق الخريطة

في صباح اليوم التالي، اجتمع المعلمون الأربعة في القاعة المستديرة الصغيرة المخصصة للتعليم، حيث أُعدّت الطاولة الدائرية والخرائط والدفاتر والوسائد الجلدية حولها. جلس زيريوس في الوسط، تحيط به عيون تنتظر منه أكثر من مجرد طفل يطرح الأسئلة.

قال أورن غراي، معلم التاريخ، وهو يشير بعصاه الخشبية إلى الخريطة:

– "هذه قارة إيلومير… قارتنا، موطن البشر. يتقاسمها تسع إمبراطوريات كبرى، وكل إمبراطورية تحكمها عائلة نبيلة قديمة، لا تزال جذورها ضاربة في التاريخ منذ أواخر العصر الثالث."

قاطعه كاليوس، وهو يُقلب في دفتره:

– "وكل إمبراطورية تسيطر على نظامها الاقتصادي الخاص، رغم اشتراكها في بعض القواعد التجارية الدولية. هل تعرف ما يربط الجميع؟ الذهب… والخوف."

ضحكت الليدي فيرينا بسخرية خفيفة:

– "بل ما يربطهم هو الطموح الأعمى. إن نظرتَ إلى شجرة التحالفات والزواجات السياسية، فستفهم كيف يُرسم مستقبل القارات من غرفة واحدة في قصر واحد."

أما درافين، فرفع كأس الماء أمامه وقال بهدوء:

– "كل هذا لا يهم إن لم تكن قادرًا على القتال. في النهاية… من يحمل السيف هو من يوقّع المعاهدة."

تبادل الجميع النظرات. أما زيريوس، فقد اكتفى بالصمت، يراقب كيف أن كل واحد من هؤلاء الأربعة يرى العالم من عدسته الخاصة.

رفع أورن غراي يده مجددًا، وأكمل:

– "إمبراطورية فاليريا، حيث نحن الآن، هي واحدة من الأقوى بين التسعة. تمتد حدودها من هضاب الضباب في الشمال حتى صحراء الرماح الذهبية جنوبًا. وهي تنقسم داخليًا إلى ممالك، كل مملكة يحكمها ملك تابع للعائلة الإمبراطورية، وتحت كل ملك… هناك دوقات، ماركيزات، كونتات، ثم الفيكونتات، والبارونات."

أردف زيريوس لأول مرة بسؤال:

– "وأين تقع بارونية داركلين في هذا التسلسل؟"

أجابت الليدي فيرينا بنبرة تعليمية:

– "أنت في أسفل الهرم النبيل تقريبًا، يا صغيري. البارون هو أدنى الرتب النبيلة التي تمتلك أراضي، لكن موقعك الحدودي يمنحك ميزة لا تملكها معظم البارونيات… أنت تراقب مفترقًا سياسيًا حساسًا."

علّق كاليوس:

– "الحدود ليست مجرد أراضٍ جرداء، بل نقاط تبادل وتهريب وتجسس… ونقود تتحرك بلا عيون."

أما درافين، فاكتفى بنظرة حادة إلى الخريطة، وقال:

– "وهي أيضًا أول من يُهاجَم عندما تبدأ الحروب."

قال أورن:

– "إن فهمت السياسة، وأمسكت بالمال، وامتلكت القوة… حينها يمكنك أن تنجو في قارة يحكمها تسعة أباطرة يكرهون بعضهم… ويخشون من ظهور عاشر."

صمت الجميع للحظة. ثم نظروا إلى زيريوس، كأنهم يرون فيه شيئًا أكثر من مجرد طفل.

ابتسم زيريوس بهدوء:

– "أريد أن أفهم كل شيء… وأختار من أكون."

2025/07/24 · 14 مشاهدة · 1598 كلمة
Farajalfa
نادي الروايات - 2025