السنة: 9989 من العصر الرابع – إمبراطورية فاليريا – بارونية داركلين

عمر زيريوس: خمس سنوات

الهدوء قبل الهمس

كان الليل قد استقرّ على جدران قلعة داركلين، وبدا وكأنّ كل شيء فيها ينام.

الهواء بارد، والشموع تخفت رويدًا، والخدم يتسلّلون إلى غرفهم بصمت.

لكن في الطابق العلوي، في أحد أروقة القلعة الخلفية، ظل ضوء خافت يتسلل من فتحة باب غير مغلق تمامًا.

كان زيريوس قد استيقظ من نومه فجأة، بسبب حلم لم يتذكره.

خرج من غرفته الصغيرة بخطوات حافية، وجسده الصغير يرتجف قليلًا من برودة الأرضية الحجرية.

كان متّجهًا نحو المطبخ للحصول على بعض الحليب، لكنه توقّف.

صوت منخفض... صوت والده.

اقترب دون صوت، وتوقّف خلف عمود حجري صغير، يختبئ كعادته حين يلعب الغميضة مع إليسا.

من خلف فتحة الباب، رأى والده، البارون ماركوس، واقفًا أمام رجل غريب الملامح.

الرجل لم يكن من حرس القلعة، ملابسه قاتمة، ووجهه نصف مغطّى بوشاح رمادي.

صوت والده كان خافتًا، لكنه واضح بما يكفي:

– "إذن... عادوا للتحرّك؟"

ردّ الرجل بصوت جاف:

– "نعم، يا سيدي. 'الخيط المائل' بدأ يشق طريقه نحو كيلدار مجددًا. التجار المرتبطون بهم يزدادون."

شدّ البارون قبضته:

– "لا أريد فوضى في شرقي الإقليم… ليست الآن."

صمت لبرهة، ثم أضاف:

– "راقب تحركاتهم، ولا تتدخّل حتى أقول."

أومأ الرجل واختفى كما لو كان ظلًا.

أغلق البارون الباب ببطء، ولم يشعر أن ابنه يراقبه من بعيد، وعيناه الصغيرتان تلمعان بشيء لم يكن يعرفه من قبل…

القلق.

– أول شكوك

عاد زيريوس إلى غرفته دون أن يُحدث صوتًا، لكن ذهنه لم يكن كما كان.

جلس على حافة فراشه، وضمّ ساقيه إلى صدره، في وضع لم تعهده المربية فيه من قبل.

"الخيط المائل؟ من هم؟"

"كيلدار؟ أليست المدينة التي يُحضر منها الحليب والعسل؟"

رغم أنه طفل في الخامسة، كان عقله يرتّب الكلمات بعناية غريزية.

منذ بدأ معلموه تعليمه، صار يعرف أن خلف كل كلمة قصة، وخلف كل نظرة أسرار.

وفي تلك الليلة، فهم شيئًا لم يُشرح له في دروس أورن غراي، ولا نطقته شفاه الليدي فيرينا…

أن السلطة لا تُمارس كلها في وضح النهار.

* صباحٌ مختلف

في صباح اليوم التالي، جلس زيريوس على مائدة الإفطار مع والدته، السيدة روزاليا، التي كانت تحدّق فيه بقلق.

– "أنت لم تنم جيدًا… هل رأيت كابوسًا؟"

هزّ رأسه نفيًا، وهو يأخذ رشفة من الحليب، لكن عيناه بقيتا شاردتين.

دخل البارون ماركوس، بكامل أناقته الرمادية، وجلس بثقل على الكرسي المقابل له.

لم ينظر إلى زيريوس مباشرة، لكن الابن كان يُراقبه بدقة.

كان يتساءل… كم عدد المرات التي تحدّث فيها والده مع رجال كالذي رآه؟

وماذا يعني أن تراقب دون أن تتدخّل؟

ولماذا بدت كيلدار – المدينة التي عرفها كمصدر للفواكه – ميدانًا للقلق؟

لكنه لم يسأل شيئًا… فقط جلس. وأكل. وحفظ.

أول بذور المراقبة

في الأيام التالية، لاحظ الخدم أن الطفل أصبح أكثر صمتًا، لكنهم اعتقدوا أنه من آثار التدريب الجسدي القاسي مع درافين.

أما الليدي فيرينا، فقد أرجعت الأمر إلى "مرحلة تأمل مبكرة"، وهو ما لم تعره أهمية كبيرة.

لكن الحقيقة كانت شيئًا آخر...

زيريوس بدأ يُراقب.

يراقب من يدخل ومن يخرج.

يراقب لهجة الخدم حين يتحدثون عن أسواق كيلدار.

يراقب تعابير وجه والده حين يقرأ الرسائل.

لم يكن يفهم كل شيء، لكنه شعر بأن هناك شبكة غير مرئية تحيط بعائلته…

شبكة لا يُحكى عنها في الدروس، ولا تُكتب في كتب التاريخ.

* الخيوط الأولى

في إحدى أمسيات الخريف، وبينما كان النسيم البارد يتسلل من نوافذ الطابق العلوي، سمع زيريوس طرقًا خافتًا على الباب الخشبي لغرفته.

فتحه بهدوء، ليجد أمامه فتاة صغيرة في سن الخدم، لا يتجاوز عمرها العشر سنوات. كانت ترتدي زي الخادمات، لكن عينيها لم تشبه عيون الخائفين.

قالت بصوت هامس:

– "السيدة آيرا تنتظرك في غرفة المكنسة القديمة خلف الدرج الحجري."

رفع حاجبيه، لكنه لم يظهر دهشة، فقط أومأ بهدوء، وتبعها في صمت.

* اللقاء مع آيرا

كانت الغرفة ضيقة، ذات جدار مائل، مليئة بالرطوبة ورائحة الخشب القديم. لكن في الزاوية جلسَت امرأة ترتدي عباءة خفيفة بلون التراب، ذات ملامح هادئة ونظرة حادة.

– "كنت أراقبك، سيدي الصغير."

قالتها آيرا، دون أن تنهض.

نظر إليها زيريوس بثبات.

فقالت وهي تبتسم لأول مرة:

– "عندما يُراقب طفلٌ في الخامسة من عمره دون أن يُلاحظ، فذلك يثير إعجابي."

اقترب منها خطوة، فقالت له:

– "أنا آيرا. أعمل في الظل من أجل داركلين. مهمتي أن أعرف كل ما لا يُقال. أما مهمتك… فستبدأ قريبًا."

جلس على الأرض أمامها، وسأل بهدوء:

– "كيلدار… فيها مشكلة، أليس كذلك؟"

لم تُجب مباشرة، بل أخرجت لفافة صغيرة، رسمت عليها علامة غير مألوفة لطفل، لكنها مألوفة في عالم المعلومات:

علامة الخيط المائل.

قالت:

– "ما دمت رأيت الرجل ذو الرداء الأسود… فلا بد أن أخبرك الحقيقة."

* توجيه مبكر

استمر اللقاء لأكثر من نصف ساعة.

آيرا لم تشرح له كل شيء، بل اكتفت بتقديم أساسيات:

هناك جهات تُخفي أعمالها تحت ستار التجارة.

مدينة كيلدار، رغم صغرها، تُستخدم كنقطة عبور بين بارونيات وممالك.

بعض التجار ليسوا مجرد تجار… بل عيونٌ لأطراف خفية.

وعائلة داركلين، عاجلاً أم آجلاً، ستضطر إلى الدخول في هذه اللعبة.

وقبل أن يخرج، قالت له بهدوء:

– "سيدي زيريوس، العالم الذي تُبنى فيه القوة… لا يُروى في كتب المعلمين. بل في رسائل الليل، وفي عيون الخفاء."

ثم وضعت بين يديه ورقة فارغة، وقالت:

– "سجّل أول ما تفكر به بعد هذا اللقاء… هذه ستكون بداية خريطتك."

– خريطة ذهنية

عاد زيريوس إلى غرفته دون أن يُلاحظه أحد. أغلق الباب خلفه، أضاء المصباح الصغير على مكتبه، ونظر إلى الورقة التي أعطته إياها آيرا.

كانت بيضاء تمامًا.

لكنه لم يرها كذلك.

في ذهنه، بدأت تتشكل الخطوط.

– "كيلدار… معبر تجاري؟ لا… إنها بوابة."

كتب في الزاوية العليا:

كيلدار = نقطة وصل بين قوى لا نراها.

ثم رسم دائرة، وضع فيها كلمة "الخيط المائل"، وربطها بسهم إلى كلمة أخرى كتبها بعناية: تجار الظل.

ثم كتب بخط صغير تحتها:

"تخفي قوتها تحت عباءة السوق."

*التحليل الأول

جلس مستندًا إلى ظهر الكرسي، يُراجع ما تعلّمه حتى الآن.

من أورن غراي، تعلّم أن الحقيقة دائمًا تُخفى في طيات الحكاية.

من الليدي فيرينا، أدرك أن النبلاء لا يتحركون دون حسابات دقيقة.

من درافين، تعلّم أن كل ضربة يجب أن تُسبَق بتوازن.

ومن كاليوس، تعلّم أن المال، حين لا يُفهم، يُدمّر.

أما من آيرا… فقد تعلّم أن المعلومة قد تسبق السيف في قوتها.

* القرار الأول

في الصباح التالي، لم يذهب إلى درس الاقتصاد مباشرة، بل طلب مقابلة خاصة مع كاليوس.

دخل المعلم الاقتصادي، مدهوشًا من الطلب، لكنه جلس بهدوء حين رأى ملامح الجدية في وجه الصغير.

– "ما الأمر يا زيريوس؟"

قال له:

– "علّمتني كيف تُدار الثروات… لكن هل علّمتني كيف تُخفى؟"

ابتسم كاليوس، ثم قال ببطء:

– "أنت لا تزال صغيرًا على هذا النوع من الأسئلة."

رد زيريوس، بصوت منخفض لكنه ثابت:

– "الصغر في الجسد فقط… أما العقل، فقد بدأ يتحرك."

* خيوط متداخلة

على مدى الأيام التالية، بدأ زيريوس يطرح أسئلة محددة:

من يموّل تجارة الحديد في كيلدار؟

من يتحكم في الضرائب التي تمر من هناك؟

ما أسماء التجار الذين لا يملكون مستودعات، لكنهم يربحون أكثر من أصحابها؟

وكاليوس، رغم دهشته، لم يُخفِ شيئًا… بل قال له ذات مرة:

– "أنت تجمع قطعًا من أحجية… هل تعرف ما الذي تحاول بناءه؟"

فأجاب زيريوس:

– "ليس بعد. لكن عندما تكتمل القطعة المئة… سأبدأ بالحركة."

– بناء الوعي

في مساء هادئ من ليالي الخريف، جلس زيريوس أمام نافذته، يتأمل ظلال الأشجار الطويلة التي ترقص على جدران القلعة.

لم يكن يفكّر في الألعاب، ولا في دروس الغد... بل في شيء واحد فقط: "السلطة غير المرئية."

لقد بدأ يدرك أن القوة لا تأتي دائمًا من السيف أو من التاج، بل أحيانًا من دفتر صغير، من كلمة في الوقت المناسب، أو من عين تعرف ما لا يجب أن تُخبر به أحدًا.

* أول أمر رسمي

صباح اليوم التالي، سلّم زيريوس إلى آيرا ورقة بسيطة كتب فيها:

مطلوب: خريطة تفصيلية لمنافذ كيلدار، تُظهر كل من:

التجار المحليين والأجانب.

المناطق التي تنشط فيها حركة غير مبررة.

أسماء الحراس الذين تم تعيينهم خلال الأشهر الستة الماضية.

نظرت آيرا إلى الورقة، ثم إلى عينيه، وقالت:

– "بدأت تطلب مثل الكبار، سيدي."

ردّ بهدوء:

– "لأن العالم لا ينتظر من يكبر… بل يبتلع من يتأخر."

* اختبار داخلي

في جلسة تدريب لاحقة مع المعلم درافين، سقط زيريوس أثناء تنفيذ تمرين توازن دقيق.

وقف الفارس فوقه، وقال بصرامة:

– "أنت لا تملك بعد التوازن الكافي!"

لكن زيريوس، رغم الألم في كاحله، قال:

– "بل أنا من اختبر حدودي."

أطلق درافين ضحكة قصيرة، ثم قال:

– "هكذا تبدأ المسيرة. عندما تعرف متى تسقط… لتعرف كيف تنهض."

* رسائل غير مكتوبة

في إحدى الليالي، وُجدت ورقة صغيرة تحت وسادة زيريوس، لم تحمل توقيعًا، فقط ثلاث كلمات:

“كيلدار ليست وحدها.”

لم يُخبر أحدًا… لكنه ابتسم، وطواها بعناية، واحتفظ بها.

لأنه أدرك الآن أن خيوط اللعب بدأت تتحرك... وأن بعض العيون، بدأت تراقب خطواته.

وفي الليلة الأخيرة، قبل أن يُطفئ المصباح، كتب زيريوس في دفتره الخاص:

"كل معلومة هي سلاح… وكل خطوة يجب أن تُحسب.

لا أريد أن أكون الأقوى فقط… بل الأعلم بمن يُمسك بالخيوط."

ثم أغلق الدفتر، واستلقى بهدوء… كطفل عمره خمس سنوات،

لكن بعقل، بدأ يبني مملكته من الظلال.

2025/07/24 · 8 مشاهدة · 1424 كلمة
Farajalfa
نادي الروايات - 2025